لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (100%)

لا يمكن أن يكون تطور دون أن يكون هناك تنازع بقاء، أو ما يقوم مقام هذا التنازع من انتخاب صناعي مقصود. حيواناتنا الداجنة لا تتنازع البقاء؛ أي إن أفرادها لا تتغالب على العيش والتناسل، ولكننا مع ذلك ننتخب منها ما نرغب في نسله ونخصصه للفحلة، ثم يشتد التباين بين هذه السلالات حتى تصير أنواعًا جديدة. وكذلك الحال في الإنسان في الحضارة الراهنة؛ فقد أصبح بمثابة الحيوان المدجن لا يتنازع أفراده على البقاء والتناسل إلا تنازعًا ضعيفًا قليل الأثر في تطوره، دع عنك أنه ليس بين أفراده انتخاب صناعي، وإليك إيضاح ذلك: (۱) كان الإنسان الأول لا يعرف الزراعة، فكان يلقى المشاق في الاهتداء إلى طعامه وكان القطر المصري لا يسع أكثر من خمسين ألف نفس كلهم يستعمل ذكاءه وقوته وشجاعته للحصول على طعامه من الغابات، فلم يكن ثُمَّ مجال لأن يعيش في هذا الوسط رجل يشوب جسمه أو قلبه أو عقله أي ضعف. وكان كل إنسان يبذل جهده لكي يحصل على قوته، أما الآن فإنه يعيش في مصر نحو ۲۲ مليونًا قد تعلموا الزراعة ومارسوها بأيسر مجهود، فالمجال واسع لعدد كبير من الضعفاء لأن يعيشوا وقل مثل ذلك في جميع أنحاء العالم المتمدن؛ فالمعيشة الآن أيسر مما كانت في زمن البداوة الأولى، وهذا يجعل تنازع البقاء أضعف مما كان. (۲) لم يكن الحصول على امرأة في الزمن القديم أمرًا متاحًا لجميع الذكور؛ إذ كان أقوى العشيرة يستأثر بجميع النساء، ثم لما عُرف السبي كان شجعان القبيلة وحدهم يحصلون على النساء، فكان التناسل محصورًا مقصورًا على الشجعان والأقوياء وذوي الحيلة في بلوغ الرياسة. وهذه الحال لا تزال جارية بين المتوحشين للآن، وهي تؤدي إلى بقاء الأقوى الأشجع وفناء الأضعف الأجبن، ولكننا نجد خلاف ذلك بين المتمدنين؛ فإن كل إنسان بصرف النظر عن ضعفه يتزوج الآن وينسل إلا في حالات قليلة جدا لا يعتد بها، فالزواج بين المتدنين يعوق التطور؛ لأنه يطبع الأجيال القادمة بطابع الأجيال الحاضرة. (۳) كان القتال في زمن البداوة الأولى يساعد على بقاء الشجعان والإكثار من نسلهم إذ لم يكن يقاتل الرجل إلا من أجل الحصول على امرأة، فإذا انتصر كان انتصاره شهادة له بتفوقه، وكان حصوله على المرأة وسيلة لأن ينشر خصال التفوق في هذه الجماعة التي ينتسب إليها، أما الآن فإن عكس ذلك يحصل؛ لأن الحروب الحاضرة تفني شباب الأمة المنتقى، حتى قيل إنه عندما مات نابليون نقصت قامة الفرنسي؛ لكثرة من ماتوا في حروبه وكانوا منتقين من طوال القامات. (٤) كان الإنسان الأول لا يعرف شيئًا من ضروب العناية بالمريض، فكان كل مريض يهلك أو يشفى بقوة ما فيه من حيوية أصلية، وجميع أفراد القبيلة في حيوية تامة، أما الآن فإن المريض يعيش بين ظهرانينا ويمكنه أن يتزوج وينسل نسلا ضعيفًا مثله، فينتشر الضعف في الأمة، وما يقال في ضعيف الجسم يقال أيضًا في ضعيف العقل؛ فإن الأبله أو المغفل يعيشان كلاهما في الحضارة الراهنة وينسلان، وهما لو كانا في البداوة الأولى لما عاشا يومًا واحدًا؛ لا تتسع لأن يعيش فيها أبله أو مغفل أو مريض. (5) في الحضارة الراهنة شيء من الانتخاب الصناعي في معاقبة المجرمين باعتقالهم في سجن أو بقتلهم، وفي كلتا الحالتين يمتنع نسلهم إما جزئيًا وأما كليا، وليس شك أن بعض دوافع الإجرام الحاضرة كانت السبيل إلى التفوق في الأزمنة القديمة، ولكن أكثرها يرجع إلى ضعف الأعصاب ضعفًا يؤدي أحيانًا إلى تأزمها، فعقاب المجرمين، حتى مع اعتبار الجرائم التي تحدث من المظالم الاقتصادية، لا يزال عاملا من عوامل بقاء الأصلح في الأمم والأصلح الآن هو الرجل الهادئ الأعصاب الذي راض نفسه على العمل في خدمة نفسه وخدمة الأمة. بل تكاد تكون معدومة، بخلاف الحال بين الحيوان والنبات البريين أو بين المتوحشين أنفسهم، وهذا ما انسان المستقبل حين لم يكن في البحار سوى الأسماك وما هو أدنى منها من الحيوان، ولم يكن على اليابسة شيء من الحيوان مطلقا، أو كان بها بعض الحشرات، ثم قيل له إنه بعد مئتي مليون سنة ستتحول زعانف الأسماك إلى أيد وأرجل، وتصير مثانتها رئة تتنفس بها الهواء مباشرة، ثم تصير هذه الأيدي أجنحة فيطير في الهواء - لظن أن هذا الكلام هو غاية السخف بل العته. نقول هذا تحذيرًا للقارئ حتى لا يستبعد شيئًا يقال عن مستقبل الإنسان بعد ملايين السنين الآتية؛ فإن التطور لم يقف، وإن كانت وجهته قد اختلفت عما كانت قبل في الإنسان. فالإنسان كان وقت بداوته خاضعًا كل الخضوع لتنازع البقاء؛ ثم طرأت عليه الحضارة فسهل العيش على عدد كبير منه كان مقضيا عليهم لو أنهم كانوا يعيشون بغير وسائل الزراعة التي يسرتها لهم الحضارة. وقد كانت وجهة التطور قبل أن يتحضر الإنسان تنحو نحو ترقية جسمه وعقله بإحداث تعديلات فسيولوجية في تركيب أعضائه حتى يوافق الوسط الذي يعيش فيه، على نحو ما يحدث للحيوان أو النبات الآن، ولكن عندما بدأ الإنسان يتحضر صار يسيطر هو على الوسط بدلا من أن يخضع له. كان الإنسان في حال البداوة أو في الحال الحيوانية السابقة إذا اشتد البرد وقسا على الأجسام بادت منه أفراد بحكم الانتخاب الطبيعي؛ فمن كان كاسيا بالشعر أكثر من غيره، أو من كان يقوى لأي سبب آخر على تحمل البرد، عاش وأنسل وأورث نسله صفاته في حين كان يموت غيره، أما في الحضارة الآن فإنه عند اشتداد البرد يحمي نفسه بمنزل يأوي إليه بفراء الحيوان أو الملابس المنسوجة من النبات، وقل مثل ذلك في سائر الأشياء. فالإنسان إذا لم يوافقه الوسط الآن عمد إلى عقله ليفكر في تغييره حتى يوافقه، في حين أن الوسط كان قديما يؤثر فيه ويعمل على تعديل جسمه بما يوافقه، ولو كان كل منا يستعمل عقله في جعل الوسط موافقًا له لما كانت الحضارة عائقا عن التطور، ولكن الحقيقة أن واحدًا في المليون تقريبا يهديه ذكاؤه إلى طريقة للتغلب على الوسط فيستفيد منها سائر المليون بدون أن تكون لهم أية ميزة تستدعي بقاءهم. فالحضارة أعاقت التطور بعض الشيء، ولكنها لم تعقه كل الإعاقة؛ إذ لا يزال تنازع البقاء يقتل منا أفرادًا بالسجن والتشريد والمرض والبله، ويبقي على أفراد آخرين. ثم يجب ألا ننسى أن حالة الوجدان الوعي) هي حال جديدة في الإنسان، بل منا من يسرف في الإحساس بحالة الوجدان هذه ويحسب لما بعد الموت ويخرف. فهذا الإحساس؛ أي إحساس الوجدان بأنفسنا، وهو آخذ في الازدياد فينا، وسيخرجنا في المستقبل من حياة الغريزة الإنسانية إلى حياة التعقل والقصد. فنحن الآن نتناسل بحكم الغريزة، وإن كان بعضنا وهو الأقل - بحكم عقله ولكن حكومات المستقبل ستعرف قيمة التناسل فتجعل قاعدته القصد لا الغريزة، فإذا بلغ بنا الوجدان أن نضع التناسل موضع القصد والنظام بدلاً من أن نجري فيه اعتباطا بوحي الغريزة، كان لنا منه في الحضارة من الانتخاب الصناعي ما يقوم مقام الانتخاب الطبيعي في الحال الحيوانية القديمة، بل في حال البداوة الإنسانية، وعندئذ يرتب الزواج بطرق تضمن رقي الإنسان السريع، وليست قوانين الوراثة معروفة كلها الآن، ولكن عرف منها قانون «مندل»، وهو بلا شك أقوى أداة في المستقبل لإيجاد السلالات الجديدة من الإنسان، وإن كانت لا تزال أشياء كثيرة منه مجهولة. وإنما الغرض في كل حال هو تأصيل الإنسان كما توصل الحيوانات أو النباتات الآن. قانون مندل، وهو أهم ما عُرف في الوراثة؛ خلاصته أنه إذا تلاقح حيوانان كانت بعض صفات أحدهما غالبة في النسل على صفات الآخر، ولكن إذا تلاقح أفراد هذه النسل ظهر نسلهما بنسبة لا تتغير. نجد أننا إذا القحنا خنزيرا أسود من سلالة سوداء خالصة من خنازير الهند بخنزيرة بيضاء من سلالة خالصة، كان الجيل الأول أسود هجينا؛ لأن صفة السواد هي الغالبة، فإذا لاقحنا بين أفراد هذا الجيل الأول ظهر النتاج هكذا في الجبل الثاني واحد أسود خالص، إذا تلاقح مع السود لم ينسل أبيض وواحد أبيض خالص إذا تلاقح مع البيض لم ينسل أسود، ثم اثنان هجان في الوسط ينسلان كما أنسل الجيل الأول ولا شك في أن تقوية العقل وتنقية العواطف وصحة الجسم من الصفات التي سيتجه إليها نظر المربين للإنسان، فهو يقوم على جسمه كالبلون الكبير فوق عنق قصير ضخم وأكتاف قوية، أما الجسم فيكون قصيرًا ضامر البطن نحيف الأطراف، وستزول من القدمين أصابعهما كما زالت من بعض القردة (الأورانج أوتان) أظافرها. فإنسان المستقبل سيختلف عنا اختلافا كبيرًا؛ لأن الغرائز ستضعف فيه إلى حد الانعدام تقريبًا، فهو لن يعرف الحب أو الغضب أو الخوف؛ إذ هو سيتناسل عن عقل لا عن غريزة. أما الغضب والحقد والخوف والغيظ فهي صفات صائرة إلى الزوال القريب؛ لأنه لن يعود لها فائدة في المستقبل؛ فقد كانت هذه الصفات تنفعنا في الماضي في حياة الغابة فكان الخوف إنذارًا للفرار، وكان الغيظ يحرك فينا الرغبة في التغلب على خصمنا، وكان الغضب يخيفه ويرده عن أذانا. ومن يدري لعله يفتح فتحًا جديدًا في أحد العوالم الأخرى، أو لعله يعرف لغة يتخاطب بها أفراده وهم سكوت بلا حاجة إلى ألفاظ، بل بلا حاجة إلى اقتراب الأشخاص. وكل هذا خيال، ولكنه خيال يستضاء فيه بالتطور الماضي والأحوال الحاضرة؛ مثال ذلك الذوق والنظر، ولكن نظرها غير دقيق لأنها تنظر بعين واحدة ولا تجمع نظر العينين إلى جهة واحدة، ثم هي سيئة الذوق. ونحن أضعف من بعض الحيوان في حاستي السمع والشم، بل في حاسة اللمس أيضًا، وهذه الحواس الثلاث الأخيرة تخدم الغريزة أكثر مما تخدم العقل؛ إلا إذا ارتقت فيه الحاسة الموسيقية فارتقى لذلك سمعه على نحو ما حدث بين الطيور. ثم ليس يبعد أن تنشأ حواس أخرى؛ كالإحساس عن بعد مثلا، وهو ما يدعيه بعض الناس الآن؛ فقد تكون هذه الدعوى صحيحة، وهي إذا كانت صحيحة فإنها تنشأ في أفراد قلائل، ثم تعم بين البشر على نحو ما نرى أناسا يولدون الآن وليس في أقدامهم أظافر. وقد قلنا إن الحضارة تعيق تطور جسم الإنسان وعقله بعض الإعاقة؛ فالرجل السيئ الذاكرة يتذكر الأشياء بكتابتها في دفتر، والرجل الضعيف النظر يمكنه أن يقويه بالنظارة وكلاهما ينسل وينشر نقيصته في النوع البشري، في حين أن الحدأة السيئة البصر تموت جوعًا، والغزال البطيء في عدوه لا يستطيع البقاء أمام الوحوش التي حوله. ولكن الناس في المستقبل سيعمدون - كما قلنا أيضًا - إلى القصد في التناسل، فلن يكون التناسل حقا مشروعًا لكل إنسان، بل يقصر على ذوي الكفايات الجسمية والخلقية والذهنية، وهناك في عصرنا أمم كثيرة تعمد إلى تعقيم الناقصين في الكفايات حتى لا يتناسلوا، ولذلك لا خوف على الإنسان من الحضارة، بعد نحو مئة ألف سنة أو أقل، هذه الصفات التالية: (۱) دماغ كبير يترجح تجويفه بين ۱۸۰۰ و ۲۰۰۰ سنتيمتر مكعب،


النص الأصلي

لا يمكن أن يكون تطور دون أن يكون هناك تنازع بقاء، أو ما يقوم مقام هذا التنازع من انتخاب صناعي مقصود. مثلا، حيواناتنا الداجنة لا تتنازع البقاء؛ أي إن أفرادها لا تتغالب على العيش والتناسل، ولكننا مع ذلك ننتخب منها ما نرغب في نسله ونخصصه للفحلة، فيحدث عندئذ التطور؛ تظهر أولاً سلالات جديدة، ثم يشتد التباين بين هذه السلالات حتى تصير أنواعًا جديدة. وكذلك الحال في الإنسان في الحضارة الراهنة؛ فقد أصبح بمثابة الحيوان المدجن لا يتنازع أفراده على البقاء والتناسل إلا تنازعًا ضعيفًا قليل الأثر في تطوره، دع عنك أنه ليس بين أفراده انتخاب صناعي، وإليك إيضاح ذلك: (۱) كان الإنسان الأول لا يعرف الزراعة، فكان يلقى المشاق في الاهتداء إلى طعامه وكان القطر المصري لا يسع أكثر من خمسين ألف نفس كلهم يستعمل ذكاءه وقوته وشجاعته للحصول على طعامه من الغابات، فلم يكن ثُمَّ مجال لأن يعيش في هذا الوسط رجل يشوب جسمه أو قلبه أو عقله أي ضعف. وكان كل إنسان يبذل جهده لكي يحصل على قوته، أما الآن فإنه يعيش في مصر نحو ۲۲ مليونًا قد تعلموا الزراعة ومارسوها بأيسر مجهود، فالمجال واسع لعدد كبير من الضعفاء لأن يعيشوا وقل مثل ذلك في جميع أنحاء العالم المتمدن؛ فالمعيشة الآن أيسر مما كانت في زمن البداوة الأولى، وهذا يجعل تنازع البقاء أضعف مما كان. (۲) لم يكن الحصول على امرأة في الزمن القديم أمرًا متاحًا لجميع الذكور؛ إذ كان أقوى العشيرة يستأثر بجميع النساء، ثم لما عُرف السبي كان شجعان القبيلة وحدهم
يحصلون على النساء، فكان التناسل محصورًا مقصورًا على الشجعان والأقوياء وذوي الحيلة في بلوغ الرياسة. وهذه الحال لا تزال جارية بين المتوحشين للآن، وهي تؤدي إلى بقاء الأقوى الأشجع وفناء الأضعف الأجبن، ولكننا نجد خلاف ذلك بين المتمدنين؛ فإن كل إنسان بصرف النظر عن ضعفه يتزوج الآن وينسل إلا في حالات قليلة جدا لا يعتد بها، فالزواج بين المتدنين يعوق التطور؛ لأنه يطبع الأجيال القادمة بطابع الأجيال الحاضرة. (۳) كان القتال في زمن البداوة الأولى يساعد على بقاء الشجعان والإكثار من نسلهم إذ لم يكن يقاتل الرجل إلا من أجل الحصول على امرأة، فإذا انتصر كان انتصاره شهادة له بتفوقه، وكان حصوله على المرأة وسيلة لأن ينشر خصال التفوق في هذه الجماعة التي ينتسب إليها، أما الآن فإن عكس ذلك يحصل؛ لأن الحروب الحاضرة تفني شباب الأمة المنتقى، حتى قيل إنه عندما مات نابليون نقصت قامة الفرنسي؛ لكثرة من ماتوا في حروبه وكانوا منتقين من طوال القامات. (٤) كان الإنسان الأول لا يعرف شيئًا من ضروب العناية بالمريض، فكان كل مريض يهلك أو يشفى بقوة ما فيه من حيوية أصلية، فكانت الأمراض لذلك قليلة، وجميع أفراد القبيلة في حيوية تامة، أما الآن فإن المريض يعيش بين ظهرانينا ويمكنه أن يتزوج وينسل نسلا ضعيفًا مثله، فينتشر الضعف في الأمة، وما يقال في ضعيف الجسم يقال أيضًا في ضعيف العقل؛ فإن الأبله أو المغفل يعيشان كلاهما في الحضارة الراهنة وينسلان، وهما لو كانا في البداوة الأولى لما عاشا يومًا واحدًا؛ فإن الغابة بما فيها من ثعابين ووحوش وحشرات، بل وإنسان أيضًا، لا تتسع لأن يعيش فيها أبله أو مغفل أو مريض. (5) في الحضارة الراهنة شيء من الانتخاب الصناعي في معاقبة المجرمين باعتقالهم في سجن أو بقتلهم، وفي كلتا الحالتين يمتنع نسلهم إما جزئيًا وأما كليا، وليس شك أن بعض دوافع الإجرام الحاضرة كانت السبيل إلى التفوق في الأزمنة القديمة، ولكن أكثرها يرجع إلى ضعف الأعصاب ضعفًا يؤدي أحيانًا إلى تأزمها، وإلى نزوات جنونية من مصلحة الجماعات البشرية أن تخلص منها؛ فعقاب المجرمين، حتى مع اعتبار الجرائم التي تحدث من المظالم الاقتصادية، لا يزال عاملا من عوامل بقاء الأصلح في الأمم والأصلح الآن هو الرجل الهادئ الأعصاب الذي راض نفسه على العمل في خدمة نفسه وخدمة الأمة. فعوامل التطور أو بعبارة أخرى عوامل الرقي في الإنسان قليلة، بل تكاد تكون معدومة، بخلاف الحال بين الحيوان والنبات البريين أو بين المتوحشين أنفسهم، وهذا ما


انسان المستقبل


لو أن إنسانا من عالم آخر زار الأرض قبل نحو مئتي مليون سنة، حين لم يكن في البحار سوى الأسماك وما هو أدنى منها من الحيوان، ولم يكن على اليابسة شيء من الحيوان مطلقا، أو كان بها بعض الحشرات، ثم قيل له إنه بعد مئتي مليون سنة ستتحول زعانف الأسماك إلى أيد وأرجل، وتصير مثانتها رئة تتنفس بها الهواء مباشرة، ثم يخرج السمك إلى اليابسة فيمشي ويتسلق الأشجار، ثم تصير هذه الأيدي أجنحة فيطير في الهواء - لظن أن هذا الكلام هو غاية السخف بل العته. نقول هذا تحذيرًا للقارئ حتى لا يستبعد شيئًا يقال عن مستقبل الإنسان بعد ملايين السنين الآتية؛ فإن التطور لم يقف، وإن كانت وجهته قد اختلفت عما كانت قبل في الإنسان. فالإنسان كان وقت بداوته خاضعًا كل الخضوع لتنازع البقاء؛ يستأصل منه ضعيف الجسم أو العقل أو العاطفة ويعمل الاستئصال لرقيه، ثم طرأت عليه الحضارة فسهل العيش على عدد كبير منه كان مقضيا عليهم لو أنهم كانوا يعيشون بغير وسائل الزراعة التي يسرتها لهم الحضارة. وقد كانت وجهة التطور قبل أن يتحضر الإنسان تنحو نحو ترقية جسمه وعقله بإحداث تعديلات فسيولوجية في تركيب أعضائه حتى يوافق الوسط الذي يعيش فيه، على نحو ما يحدث للحيوان أو النبات الآن، ولكن عندما بدأ الإنسان يتحضر صار يسيطر هو على الوسط بدلا من أن يخضع له. كان الإنسان في حال البداوة أو في الحال الحيوانية السابقة إذا اشتد البرد وقسا على الأجسام بادت منه أفراد بحكم الانتخاب الطبيعي؛ فمن كان كاسيا بالشعر أكثر من غيره، أو من كان يقوى لأي سبب آخر على تحمل البرد، عاش وأنسل وأورث نسله صفاته في حين كان يموت غيره، أما في الحضارة الآن فإنه عند اشتداد البرد يحمي نفسه بمنزل يأوي إليه بفراء الحيوان أو الملابس المنسوجة من النبات، وقل مثل ذلك في سائر الأشياء. فالإنسان إذا لم يوافقه الوسط الآن عمد إلى عقله ليفكر في تغييره حتى يوافقه، في حين أن الوسط كان قديما يؤثر فيه ويعمل على تعديل جسمه بما يوافقه، ولو كان كل منا يستعمل عقله في جعل الوسط موافقًا له لما كانت الحضارة عائقا عن التطور، وكل ما يكون في الأمر - عندئذ - أن التطور كان ينتقل من الجسم إلى العقل، ولكن الحقيقة أن واحدًا في المليون تقريبا يهديه ذكاؤه إلى طريقة للتغلب على الوسط فيستفيد منها سائر المليون بدون أن تكون لهم أية ميزة تستدعي بقاءهم. فالحضارة أعاقت التطور بعض الشيء، ولكنها لم تعقه كل الإعاقة؛ إذ لا يزال تنازع البقاء يقتل منا أفرادًا بالسجن والتشريد والمرض والبله، ويبقي على أفراد آخرين. ثم يجب ألا ننسى أن حالة الوجدان الوعي) هي حال جديدة في الإنسان، ليس هناك ما يدل على أنها موجودة عند الحيوانات العليا إلا بمقدار يسير؛ فنحن نشعر بما نفعل ونشعر بوجود شخصي لنا أمس ولنا غد، بل منا من يسرف في الإحساس بحالة الوجدان هذه ويحسب لما بعد الموت ويخرف. فهذا الإحساس؛ أي إحساس الوجدان بأنفسنا، لا يشعر به أي حيوان، وهو آخذ في الازدياد فينا، وسيخرجنا في المستقبل من حياة الغريزة الإنسانية إلى حياة التعقل والقصد. فنحن الآن نتناسل بحكم الغريزة، وإن كان بعضنا وهو الأقل - بحكم عقله ولكن حكومات المستقبل ستعرف قيمة التناسل فتجعل قاعدته القصد لا الغريزة، وتقصره على فئة خاصة من الناس تجد فيها ما ترغب في أن تحصل عليه الذريات القادمة، فإذا بلغ بنا الوجدان أن نضع التناسل موضع القصد والنظام بدلاً من أن نجري فيه اعتباطا بوحي الغريزة، كان لنا منه في الحضارة من الانتخاب الصناعي ما يقوم مقام الانتخاب الطبيعي في الحال الحيوانية القديمة، بل في حال البداوة الإنسانية، وعندئذ يرتب الزواج بطرق تضمن رقي الإنسان السريع، وليست قوانين الوراثة معروفة كلها الآن، ولكن عرف منها قانون «مندل»، وهو بلا شك أقوى أداة في المستقبل لإيجاد السلالات الجديدة من الإنسان، وإن كانت لا تزال أشياء كثيرة منه مجهولة. وليس يمكن الجزم بنوع الزواج في المستقبل البعيد، وهل يجري على مقترح أفلاطون أو مقترح جماعة أونيدا، وإنما الغرض في كل حال هو تأصيل الإنسان كما توصل الحيوانات أو النباتات الآن.


قانون مندل، وهو أهم ما عُرف في الوراثة؛ خلاصته أنه إذا تلاقح حيوانان كانت بعض صفات أحدهما غالبة في النسل على صفات الآخر، ولكن إذا تلاقح أفراد هذه النسل ظهر نسلهما بنسبة لا تتغير. ففي هذا الشكل - مثلا . نجد أننا إذا القحنا خنزيرا أسود من سلالة سوداء خالصة من خنازير الهند بخنزيرة بيضاء من سلالة خالصة، كان الجيل الأول أسود هجينا؛ لأن صفة السواد هي الغالبة، فإذا لاقحنا بين أفراد هذا الجيل الأول ظهر النتاج هكذا في الجبل الثاني واحد أسود خالص، إذا تلاقح مع السود لم ينسل أبيض وواحد أبيض خالص إذا تلاقح مع البيض لم ينسل أسود، ثم اثنان هجان في الوسط ينسلان كما أنسل الجيل الأول


ولا شك في أن تقوية العقل وتنقية العواطف وصحة الجسم من الصفات التي سيتجه إليها نظر المربين للإنسان، ويمكننا أن ننظر إلى إنسان المستقبل بعين الخيال فنجد أضخم ما فيه رأسه؛ فهو يقوم على جسمه كالبلون الكبير فوق عنق قصير ضخم وأكتاف قوية، أما الجسم فيكون قصيرًا ضامر البطن نحيف الأطراف، وستزول من القدمين أصابعهما كما زالت من بعض القردة (الأورانج أوتان) أظافرها. أما من حيث العواطف، فإنسان المستقبل سيختلف عنا اختلافا كبيرًا؛ لأن الغرائز ستضعف فيه إلى حد الانعدام تقريبًا، فهو لن يعرف الحب أو الغضب أو الخوف؛ إذ هو سيتناسل عن عقل لا عن غريزة. أما الغضب والحقد والخوف والغيظ فهي صفات صائرة إلى الزوال القريب؛ لأنه لن يعود لها فائدة في المستقبل؛ فقد كانت هذه الصفات تنفعنا في الماضي في حياة الغابة فكان الخوف إنذارًا للفرار، وكان الغيظ يحرك فينا الرغبة في التغلب على خصمنا، وكان الغضب يخيفه ويرده عن أذانا.
وستقتصر هموم إنسان المستقبل على درس هذا الكون والتملي بجماله واكتشاف مجاهله، ومن يدري لعله يفتح فتحًا جديدًا في أحد العوالم الأخرى، أو لعله يعرف لغة يتخاطب بها أفراده وهم سكوت بلا حاجة إلى ألفاظ، بل بلا حاجة إلى اقتراب الأشخاص. وكل هذا خيال، ولكنه خيال يستضاء فيه بالتطور الماضي والأحوال الحاضرة؛ فمن التطور نعرف أن بعض الحواس الخمس ارتقى في الإنسان أكثر من ارتقائه في أي حيوان. مثال ذلك الذوق والنظر، فبعض الطيور أبعد نظرًا منا، ولكن نظرها غير دقيق لأنها تنظر بعين واحدة ولا تجمع نظر العينين إلى جهة واحدة، ثم هي سيئة الذوق. ونحن أضعف من بعض الحيوان في حاستي السمع والشم، بل في حاسة اللمس أيضًا، وهذه الحواس الثلاث الأخيرة تخدم الغريزة أكثر مما تخدم العقل؛ ولذلك فالأغلب أنها صائرة إلى الزوال في الإنسان الذي سيكون جُلُّ اعتماده في المستقبل على النظر، إلا إذا ارتقت فيه الحاسة الموسيقية فارتقى لذلك سمعه على نحو ما حدث بين الطيور. ثم ليس يبعد أن تنشأ حواس أخرى؛ كالإحساس عن بعد مثلا، وهو ما يدعيه بعض الناس الآن؛ فقد تكون هذه الدعوى صحيحة، وهي إذا كانت صحيحة فإنها تنشأ في أفراد قلائل، ثم تعم بين البشر على نحو ما نرى أناسا يولدون الآن وليس في أقدامهم أظافر. وقد قلنا إن الحضارة تعيق تطور جسم الإنسان وعقله بعض الإعاقة؛ فالرجل السيئ الذاكرة يتذكر الأشياء بكتابتها في دفتر، والرجل الضعيف النظر يمكنه أن يقويه بالنظارة وكلاهما ينسل وينشر نقيصته في النوع البشري، في حين أن الحدأة السيئة البصر تموت جوعًا، والغزال البطيء في عدوه لا يستطيع البقاء أمام الوحوش التي حوله. ولكن الناس في المستقبل سيعمدون - كما قلنا أيضًا - إلى القصد في التناسل، فلن يكون التناسل حقا مشروعًا لكل إنسان، بل يقصر على ذوي الكفايات الجسمية والخلقية والذهنية، وهناك في عصرنا أمم كثيرة تعمد إلى تعقيم الناقصين في الكفايات حتى لا يتناسلوا، وإن كان هذا التعقيم لا يحول دون الزواج؛ ولذلك لا خوف على الإنسان من الحضارة، فإن فيها الداء والدواء معا. ونستطيع أن نبصر في إنسان المستقبل، بعد نحو مئة ألف سنة أو أقل، هذه الصفات التالية: (۱) دماغ كبير يترجح تجويفه بين ۱۸۰۰ و ۲۰۰۰ سنتيمتر مكعب، وهو الآن في المتوسط نحو ١٤٥٠ س. م في المتوسط، وسيصل الإنسان إلى هذه الحال بانتخاب صناعي تعنى به المجتمعات البشرية القادمة؛ لأن زيادة الدماغ تعني زيادة الذكاء، وأكبر ما يعمل


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

لقد حقق القسم إ...

لقد حقق القسم إنجازات متعددة تعكس دوره المحوري في مواجهة تحديات التغيرات المناخية في القطاع الزراعي....

1. قوة عمليات ا...

1. قوة عمليات الاندماج والاستحواذ المالية في المشهد الديناميكي للأعمال الحديثة، ظهرت عمليات الاندماج...

اﻷول: اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻠﻰ...

اﻷول: اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻠﻰ ﺗﺸﺘﻤﻞ ﺗﻤﮭﯿﺪﯾﺔ ﻣﻘﺪﻣﮫ ﺳﻨﻀﻊ اﻟﻤﺒﺤﺚ ھﺬا ﻓﻲ ﺳﺘﻜﻮن ﺧﻼﻟﮭﺎ ﻣﻦ واﻟﺘﻲ اﻟﻌﻼﻗﺔ ذﻟﺒﻌﺾ ھﺎﻌﻠﻮم ﻔﺎت ...

الوصول إلى المح...

الوصول إلى المحتوى والموارد التعليمية: تشكل منصات وسائل التواصل الاجتماعي بوابة للدخول إلى المحتوى ...

ـ أعداد التقاري...

ـ أعداد التقارير الخاصه بالمبيعات و المصاريف والتخفيضات و تسجيل الايرادات و المشتريات لنقاط البيع...

وهي من أهم مستح...

وهي من أهم مستحدثات تقنيات التعليم التي واكبت التعليم الإلكتروني ، والتعليم عن والوسائط المتعدد Mult...

كشفت مصادر أمني...

كشفت مصادر أمنية مطلعة، اليوم الخميس، عن قيام ميليشيا الحوثي الإرهابية بتشديد الإجراءات الأمنية والر...

أولاً، حول إشعي...

أولاً، حول إشعياء ٧:١٤: تقول الآية: > "ها إن العذراء تحبل وتلد ابنًا، وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعياء...

يفهم الجبائي ال...

يفهم الجبائي النظم بأنّه: الطريقة العامة للكتابة في جنس من الأجناس الأدبية كالشعر والخطابة مثلاً، فط...

أعلن جماعة الحو...

أعلن جماعة الحوثي في اليمن، اليوم الخميس، عن استهداف مطار بن غوريون في تل أبيب بصاروخ باليستي من نوع...

اهتم عدد كبير م...

اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدا...

وبهذا يمكن القو...

وبهذا يمكن القول في هذه المقدمة إن مصطلح "الخطاب" يعدُّ مصطلحًا ذا جذور عميقة في الدراسات الأدبية، ح...