Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

تحرير وتقرير بقلم: أيمن عبد الزهرة الموسوي
تمهيد
يدور حديثنا هنا حول واحدة من القضايا التي تمثل نقطة تجاذب واختلاف بين تيّارات متعدّدة في الاجتهاد الشرعي داخل المؤسّسة الدينية وخارجها، ويمكن طرح الموضوع بصيغة سؤال: كيف يتعامل الاجتهاد الشرعي مع موضوع علاقة النصّ بالتاريخ وربط التشريعات بسياقها التاريخي؟
إذا تأمّلنا بدقّة سوف نجدّ أنّ الكثير من السجالات المعاصرة تقف خلفها تاريخيّة التشريعات، وبخاصّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصولاً إلى يومنا هذا، يحاول توظيف التاريخيّة بوصفها إحدى السبل لإيجاد توافق مع متطلّبات الحياة المعاصرة، وفي الوقت نفسه يجعلهما قابلين لمحاكاة الحياة والسير معها. من هنا مقترَحي المتواضع هو أنَّه قد صار من الضروري لعلم أصول الفقه أن يتلقّى هذا الموضوع بجديّة، ويُفرد له باباً خاصاً، والسبب في هذا الاقتراح أنَّه عندما يتلقّف الدرس الأصولي الإسلامي بجديّة موضوعاً من هذا القبيل، وبهذا نخرج من حالة الفوضى التي تتجاذبها الكلمات هنا دون وضع ضوابط محددة، نحو فهم تنظيري حقيقي لفكرة التاريخيّة. 2 ـ ما معنى التاريخيّة التي نقصدها هنا؟
لا نقصد بالتاريخيّة المفهوم الذي يختاره بعض الباحثين في الفكر الحديث، والذي يجعل النصّ الديني نتيجاً للثقافة الزمنيّة، بمعنى أنَّنا حينما نقوم بفهم نصّ معين نأخذ بعين الاعتبار السياق الزمني المحيط بهذا النصّ، ولا نقصر نظرنا فقط على السياقات اللفظيّة المحيطة بالكلام، وإنَّما نلاحظ المسار التاريخي الذي ولد هذا النصّ في داخله؛ 3 ـ لماذا الخوف من التاريخيّة؟
لقد تحوّلت كلمة "التاريخيّة" إلى فزّاعة عند بعض الناس؛ لأنَّهم يتصوّرون أنّنا عندما نقول بأنّ النصّ الديني ـ سواء كان القرآن أم السُنَّة ـ يرتبط بالتاريخ، فهذا معناه أنَّنا نريد أنْ نجعل كلّ الشريعة من شؤون القرون الهجرية الثلاثة الأولى، وبما أنًّنا نتكلّم عن التاريخيّة فهذا معناه أنَّنا نريد أنْ نلغي الأحكام الشرعية، ونعتبر أنّ الشريعة حلٌّ لأهل القرون الأولى وليست حلاً لزماننا. هذا النوع من التعاطي مع موضوع تاريخيّة التشريع بالمفهوم الذي عرّفنا به التاريخيّة، هو في الحقيقة أقرب إلى المنهج الإعلامي التهويلي من جهة، وإلّا فالمنهج التاريخي الذي ندّعيه لا يقول بأنَّنا نضع الأحكام جانباً أو أنّها حلول لأهل القرون الهجريّة الأولى دون زماننا، بمعنى أنّ التاريخية يمكن أنْ نطبّقها لإلغاء حكمٍ بشكل كلّي تقريباً، وممكن أنْ نطبقها لتقييد حكم، فلا يتصور شخص بأنّ التاريخية تعني أنَّنا نريد أنْ نضع هذه الأحكام جانباً ونرميها، في البداية يجب التنويه إلى أنّ كلّ الأمثلة والتطبيقات التي سأذكرها لا يعني ذكري لها بالضرورة أنّني أوافق عليها، التطبيق الأوّل: تعدّد الزوجات
والأستاذ محمود محمد طه (1985م)، والإسلام كان بصدد إلغاء التعدّد مطلقاً، فعندما قال أربع، لم يكن يقصد التحديد النهائي، فكان الإسلام بصدد وضع خطة تدريجيّة لإنقاص هذا العدد إلى الواحدة، التطبيق الثاني: الجهاد الابتدائي
هذا النمط من استخدام التاريخيّة معناه أنَّنا نستخدم التاريخيّة لاكتشاف أنّ حكماً من الأحكام كان مؤقتاً في زمان معيّن وانتهى ولم يعد له وجود، لأنّه يوحي بأنَّ الفهم التاريخي هو فهم يعطّل الشريعة ويضعها في إطار التاريخ. التطبيق الأوّل: الإكثار من النسل
ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في موضوع الإكثار من النسل الذي وردت روايات عديدة تحث عليه. لكنْ عندما كثر المسلمون لم تعد هناك حاجة لفكرة من هذا القبيل، فلم تعد الكثرة العدديّة معياراً في الحروب من وجهة نظر الشيخ مكارم الشيرازي( ). معنى هذا الكلام أنّ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي يقول بأنّ استحباب الإكثار من النسل ثابتٌ وما يزال إلى الآن ثابتاً، غاية الأمر هو ثابت في حال حاجة المجتمع إلى الكثرة العدديّة، وفي أماكن أخرى عندما يكون عندنا كثافة سكّانية إسلاميّة لا نفعل ذلك، فالشيخ مكارم الشيرازي لم يلغِ هنا الحكمَ الشرعي وإنَّما قام بتضييقه وفقاً لفهمه التاريخي، وذلك أنّه وَضَعَ النص في داخل السياق التاريخي، فحثت النصوص عليها، فهذا الحكم لم ينتهِ، بل في كلّ ظرف تكون الكثرة العدديّة فيه حاجة للمجتمع الإسلامي يكون الحكم باستحباب الإكثار من النسل ثابتاً، وفي كلّ موضع تكون الكثرة العدديّة عبئاً على المجتمع الإسلامي يكون الإكثار من النسل غير مستحبّ. وعليه، فهذا التمييز لا يلغي الحكم، وإنَّما يقوم بتضييقه تضييقاً متناسباً مع كيفيّة الربط ما بين صدور النصوص وما بين التاريخ. يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين (2001م) عن استحباب تناول الملح قبل الطعام بأنّ هذا الاستحباب ثابتٌ، لكنّه متناسب مع الظروف المناخية للبلاد الحارّة التي كان النبيّ وأصحابه وأهل بيته ـ في الأعم الأغلب ـ يعيشون فيها، وكان تناول هذه الكميّة من الملح أمراً طبيعياً، وبالتالي لا أستطيع ـ والكلام للشيخ شمس الدين ـ أنْ أعمّم هذا الحكم إلى البلاد الباردة التي يكون تناول هذه الكميّة من الملح فيها مضرّاً( ). بل يقول بأنّني أستنتج ـ من خلال الربط ما بين السياق الزماني المكاني وما بين هذا النصّ ـ أنّ هذا الحكم مضيقٌ، وأنّه خاص بظروف مناخيّة حارّة، خلافاً لما يتصوّره بعض الناس من أنّ التاريخية تلغي الحكم دائماً، ففي هذه الحالة العكسُ هو الذي يجري، حيث تكرّس التاريخيّة الحكم وتوسّعه من خلال تحريره من شكله الزمني. يرى العلامة السيد محمد حسين فضل الله (2010م) أنّ شرط الرؤية في ثبوت الهلال جاء متناسباً مع الوضع التاريخي، كان يتكلّم ضمن فضاء تاريخي خاصّ لم يكن اليقين بولادة الهلال وخروجه من المحاق فيه متيسراً إلَّا من خلال الرؤية، هذا الفهم التاريخي الذي أقامه فضل الله، والذي يربط بين تعبير «صم للرؤية» وبين طبيعة مستوى معرفة الناس آنذاك بولادة الهلال أو عدم ولادته، وإنَّما أثبت رؤية الهلال بوصفها طريقاً لإثبات بدايات الشهور، كما أثبت أيضاً كلّ طريق آخر يفيد اليقين بولادة الهلال، فإذا تطوّرت العلوم ظلّت الرؤية سبيلاً من سبل إثبات بدايات الشهور، إذن، لأنَّه لم يكن هناك طريق آخر شبيه به. التطبيق الثاني: موضوع حرمة الاحتكار
المشهور بين الفقهاء أنّ الاحتكار خاصّ بأربعة أو ستة أشياء وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت( )، لأنَّ هذه العناصر كان بها قوام طعام الناس، بل معناه أنّ موضوع حكم الاحتكار صار أوسع، لا في رمي الفتوى ولا في إلغاء علاقة الشريعة بواقعنا المعاصر، وإنَّما في إعادة بناء الفتوى بحيث تصبح أقدر على الاستجابة في بعض الأحيان لحاجات العصر. التطبيق الثالث: الشطرنج
وكان الأساس لهذه الفتوى هو الفهم التاريخي للنصوص الحديثيَّة المحرِّمة للشطرنج، حيثُ كانت الشطرنج في وقت صدور نصّ تحريمها آلةً من آلات القمار، فإنّ ما فهمه الناس في ذلك الزمان هو أنّ هذا الرمز القماري محرمٌ، أي آلات القمار محرّمة، فلمّا تحولت حالة الشطرنج من أن تكون آلة قمار ـ كما هو الشائع ـ إلى أنْ تصبح آلة غير قمارية تغيَّر الحكم. إذن، في مقابل ما تطرحه المؤسّسة الدينيّة، بل الفهم التاريخي الذي مارسته المؤسّسة الدينية نفسها نفسها ولو بشكل جزئي دون المستوى المنشود، وسأشير بعد قليل إلى شيء من ذلك. ثانياً: عندما نتحدّث عن الفهم التاريخي، لا نقصد بالضرورة أنّ هذه الأحكام صارت جزءاً من الماضي وانتهت ولم يعد هناك حكم للشريعة في هذا الموضوع، بل بالعكس، وتارةً أخرى يقوم بإعادة إنتاج الحكم بطريقة تجعله أقدر على الاستجابة لمتطلّبات المرحلة الراهنة. 5 ـ التاريخيّة في نصوص أهل البيت
وبعبارة أخرى: عندنا مجموعة من النصوص في مجموعة من الوقائع ذكر أهل البيت أنفسهم فيها بأنّ النصّ الذي قاله النبيّ قد قاله ضمن سياق تاريخي، ويجب عليكم أنْ تفهموه ضمن سياقه التاريخي. وهذا الكلام معناه أنّه يوجد في التراث الحديثي ما يعزّز فكرة تاريخيّة بعض الأحكام، بمعنى إعادة الاجتهاد في الأحكام بطريقة تربط النصّ بالتاريخ، 5 ـ 1 ـ النهي عن أكل لحوم الحمير
عندما خرج المسلمون باتجاه خيبر ــ والتي تفصلها عن المدينة مسافة كبيرة جداً ــ وبعد أنّ طالت رحلة الجهاد في خيبر أصدرَ رسول الله قراراً وحكماً حاسماً بالنهي عن أكل لحوم الحمير، ويعيد صياغة فهمنا لطبيعة هذا النهي عبر وضعه في سياقه التاريخي. ففي رواية يقول الإمام الباقر: «نهى رسول الله‘ عنها [لحوم الحمير] وعن أكلها يوم خيبر. وإنَّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت؛ ونهي النبي عنه كان لأنَّ الناس عند رجوعهم من خيبر لم يكونوا يمتلكون إلا الحمير إذا أرادوا أن يركبوا على شيء أو يضعوا أمتعتهم، فإذا قاموا بذبحها ليأكلوها ستقع الناس في مشكلة! فكيف يرجعون إلى المدينة في ظلّ هذه المسافة الطويلة وبعد رحلة جهاديّة شاقّة استمرت عدّة أشهر؟!
إذن، النهي النبويّ هنا هو نهيٌ حكومي سلطاني ولائي، وهو يعني أنّه نهي تاريخي، وجاء الإمام الباقر ليوضح لنا هذا السياق. وإذا ربطناه به استطعنا فهمه بشكل أفضل. ستكون النتيجة: إذا احتاج الناس إلى الحمير لنقل أمتعتهم ونفوسهم حَرُمَ أكلها، وإنّما كان حكماً مؤقّتاً له علّة، فإذا تجدّدت هذه العلّة تجدّد الحكم. يقول الراوي: سمعت أبا جعفر يقول: «إنَّ الناس أكلوا لحوم دوابهم يوم خيبر، فأمر رسول الله‘ بإكفاء قدورهم ونهاهم عن ذلك ولم يحرّمها»( ). فعندما نلاحظ تعبير نهاهم عن ذلك ولم يحرّمها، لكن كان هناك ظرفٌ خاص دفع رسول الله‘ لإصدار النهي. إذن، 5 ـ 2 ـ حرمة بناء الجدران حول البساتين
بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يدخل إلى البستان، ففي الرواية سأل علي بن جعفر أخاه موسى بن جعفر عن رجل يمرّ على ثمرة فيأكل منها؟ قال: «نعم، قد نهى رسول الله‘ أن تستر الحيطان برفع بنائها»( ). عن جعفر بن محمّد الصادق، أنّه سُئل عما يأكل الناس من الفاكهة والرطب مما هو لهم حلال؟ فقال: «لا يأكل أحد إلا من ضرورة، ولا يفسد إذا كان عليها فناء محاط، لكي يأكل منها كلّ أحد»( ). يفهم من هذه الرواية أنّ النهي النبويّ عن بناء سور حول البساتين ليس حكماً شرعيّاً أصلياً إلى يوم القيامة متحرّراً من أيّ قيد، وإنَّما جاء هذا النهي النبوي لأنّ الناس كانت محتاجة للأكل، فإذا وضع كلّ واحد حول بستانه حائطاً، مما يعطينا دلالة على عمليّة الربط التاريخي في هذا الموضوع. يشرح الإمام جعفر الصادق لنا هذا النهيَ النبوي، ففي صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد الله× عن الوباء يكون في ناحية المصر، أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره، قال: «لا بأس، إنّما نهى رسول الله‘ عن ذلك لمكان ربيئةٍ( ) كانت بحيال العدو، فقال رسول الله‘: الفارّ منه كالفارّ من الزحف، الإمام الصادق يبيّن لنا أنّ الموضوع مرتبط بفقه الجهاد، وليس مرتبطاً بكلّ من ضرب الطاعون مناطقهم وبلدانهم. تؤكّد هذه التوجيهات الحديثيّة من أهل البيت على أنّ بعض النصوص تصدر مرتبطةً بسياقات تاريخيّة، وأنَّه لا يمكن للفقيه أن يحرّر النص من سياقه التاريخي مطلقاً ويأخذه ويقتطعه ويجعله كأنّه معلّق في الفضاء، والعلل والمناطات التي جاء النص لأجلها، وهذه نقطة في غاية الأهميّة والضرورة. إلا أنّ التفات الفقهاء إلى هذا الموضوع كان قليلاً، سأشير إلى هذه القضيّة بشكل سريع، هو نصّ الشيخ الصدوق (381هـ) عندما أراد أن يفهم النصوص الحديثيّة في باب الطبّ فذهب إلى أنّ بعض النصوص الطبيّة لا ينبغي أن نأخذها على إطلاقها مثلاً: أكل الطعام الفلاني دواء من الشيء الفلاني، يقول الصدوق بأنّ هذه لا تؤخذ على إطلاقها؛ لأنّ بعض هذه النصوص مرتبطٌ بهواء مكّة والمدينة ومناخهما، فلا يمكنك تطبيقه في هواء خراسان وبلخ وسمرقند وآذربيجان مثلاً؛ لأنَّ المناخات مختلفة( ). وطلب منّا الصدوق أن لا نفسّر النص بطريقة متحرّرة من هذا القيد المكاني والمناخي، ويعتبر هذا النص للصدوق من أقدم النصوص الصريحة الواضحة التي تربط بين النصّ وسياقه المنفصل. كانوا يتباهون أنَّهم قبل أن يقف الفرس يقفزون عنه، فكانوا أحياناً يقعون على رؤوسهم أو يموتون، فيكون ذلك إيقاعاً للنفس في التهلكة أو ضرباً من الانتحار. هذا الحكم عند ربطه بالوضع التاريخي نكتشف أنَّه تطبيقٌ لحكم اسمه حرمة تعريض النفس للتهلكة، بعد ذلك، كما في النقود المتعاورة( )والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأقارب فإنها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه. فالمرويّ تقديم قول الزوج، تبعاً لتلك العادة. فيجب فهم النصّ بشكل نعي معه ارتباطاته التاريخيّة، وهذا ليس أمراً سهلاً. حيث تتكرّر جمل من نوع: «حكم في واقعة» أو «هذا حكم في واقعة فلا يُتعدّى» وهكذا. هذه التعابير التي يستخدمها الفقهاء تدلّ على أنّ فكرة التاريخيّة كانت موجودة في أذهانهم، ثمّ يلاحظون أنّ هذا الحكم لا ينسجم مع الروايات الأخرى ولا مع القواعد الشرعيّة ولا مع التأصيلات الفقهيّة الأخرى فهم يقولون ـ وبخاصّة في باب القضاء ـ: هذا أصدره الإمام "قضيّة في واقعة"، وعليه لا يمكننا العمل بهذا الحديث ورمي كلّ القواعد الفقهيّة التي تقف خلفها مجموعة من النصوص الحديثيّة الكثيرة. من القرن الثالث الهجري إلى القرن الثالث عشر الهجري، أستطيع أنْ أقول: إنّ المزاج الشيعي العام ليس ذاك المزاج المتحمّس كثيراً لمقاربة النصوص في ضوء السياقات التاريخيّة بهذه الطريقة. إلا أنّه في العصر الحديث تغيّر الوضع تغيّراً هائلاً وكبيراً جداً داخل فضاء المؤسّسة الدينية، فاكتشفت أنّ تجربة الحياة السياسيّة ـ الاجتماعيّة تتطلّب أحكاماً متغيّرة ـ ولائيّة وسلطانية زمنية ـ من قبل إمام المسلمين. لقد انتبه فقهاء الإماميّة، ولا سيما فقهاء القرن العشرين، وهو تنويع شخصيّة النبيّ والإمام، تبعاً لمتغيّرات وضرورات وقتيّة، وهذا ما طرحه السيد محمّد باقر الصدر (1980م) بشكلٍ صريح، وقضى بين أهل البادية: أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ، وفي هذا الضوء نعرف أنّ النبي لم يحرّم على أهل المدينة منع نفع الشيء، أو منع فضل الماء بصفته رسولاً مبلّغاً للأحكام الشرعية العامة، وإنّما حرّم ذلك بوصفه وليّ الأمر المسؤول عن تنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع وتوجيهها توجيهاً لا يتعارض مع المصلحة العامة التي يقدّرها. إضافة إلى شخصيّته التبليغيّة التي تبيّن الأحكام الكليّة للشريعة. هذا التنويع في شخصيّة النبيّ والإمام استمرّ بعد الصدر الى يومنا هذا، فالكثير من الفقهاء ـ بمن فيهم الكثير من المعاصرين مثل الشيخ مكارم الشيرازي والسيد السيستاني وغيرهما ـ بدأوا يتقبّلون بشكلٍ واضح فكرة وجود تشريعات ولائيّة أصدرها أهل البيت. وهذا الأمر فتح المجال على إعادة قراءة شخصيّات المعصوم وطبيعة التشريعات التي يصدرها، موضوع الرقيّة في الحرب، هل أسرى الحرب يصبحون أرقاء أو لا ؟ بعض العلماء قالوا بأنّ القرآن عندما تكلّم عن الأسرى قال: (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَاْرَهَا) (محمّد: 4). ولم يقل: استرقّوهم، والسبب في عدم ذكر الاسترقاق في القرآن يرجع ـ كما يقولون ـ إلى أنّ مسألة الاسترقاق خاضعة للظرف التاريخي؛ لأنّ أدبيات الحروب بين الناس كانت قائمة على ذلك، فالمسلمون فعلوا ذلك والشريعة سمحت لهم بفعله من باب المعاملة بالمثل، بل إذا رجعت الناس تتعامل بهذه الطريقة فلا مانع من العودة، أما وقد انتهت هذه العادة وانتهت هذه التبانيات العرفية في الحروب فإنّ هذا الحكم يكون قد انتهى. وأنّ شرط الذكورة ثابتٌ في وليّ الأمر، أمّا اليوم وقد تغيّرت الدولة وأصبحت دولة المؤسّسات، يحتاجُ إلى دليل، فلم يوافقوا أو على الأقلّ أثاروا بعض التحفّظات في هذا الموضوع( ). خلاصة ما أريد قوله: إنّ موضوع التاريخيّة من الأهميّة بمكان؛ لأنَّ لديه القدرة على تغيير الكثير من صياغات الفتاوى، ولا أقصد الصياغة اللفظيّة بقدر ما أقصد شكل الفتوى وبُنيتها، ولأنّ لديه القدرة على إيجاد نوع من التناسب بين الأحكام الشرعية ومتغيّرات الحياة.


Original text

الاجتهاد الشرعي
ومسألة تاريخيّة التشريعات الدينية


حيدر حبّ الله( )
تحرير وتقرير بقلم: أيمن عبد الزهرة الموسوي


تمهيد
يدور حديثنا هنا حول واحدة من القضايا التي تمثل نقطة تجاذب واختلاف بين تيّارات متعدّدة في الاجتهاد الشرعي داخل المؤسّسة الدينية وخارجها، ألا وهو موضوع تاريخيّة السنة الشريفة أو تاريخيّة الأحكام الشرعيّة بشكلٍ عام، ويمكن طرح الموضوع بصيغة سؤال: كيف يتعامل الاجتهاد الشرعي مع موضوع علاقة النصّ بالتاريخ وربط التشريعات بسياقها التاريخي؟
إذا تأمّلنا بدقّة سوف نجدّ أنّ الكثير من السجالات المعاصرة تقف خلفها تاريخيّة التشريعات، بحيث يمكن اعتبار سؤال التاريخيّة من الموضوعات البنيويّة الأساسيّة اليوم.
لقد ظهر في العالم الإسلامي تيار واسع، وبخاصّة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصولاً إلى يومنا هذا، يحاول توظيف التاريخيّة بوصفها إحدى السبل لإيجاد توافق مع متطلّبات الحياة المعاصرة، بحيث يمكن من خلالها المحافظة على القيم الدينيّة وعلى الشريعة، وفي الوقت نفسه يجعلهما قابلين لمحاكاة الحياة والسير معها.
1 ـ غياب بحث التاريخيّة عن علم أصول الفقه المدرسي
إذا أردنا أن ندخل قليلاً في التراث الاجتهادي الإسلامي، فنحن لا نجد عندنا فصلاً خاصّاً أو مكاناً محدّداً في علمٍ مثل علم أصول الفقه يتناول قضيّةً من هذا القبيل، على الرغم من أنَّها تُعدّ أساسية جداً، فلا نستطيع أن نلتمس باباً معيناً أو فصلاً محدّداً من علم أصول الفقه عند المسلمين، منذ القرن الثالث والرابع الهجري، إلى اليوم، تحت عنوان التاريخيّة، إلا أنّ الكثير من الموضوعات المرتبطة بهذا البحث مبثوثة في ثنايا الدراسات القرآنيّة، ومباحث أسباب النزول، والقضايا المرتبطة بالحديث الشريف، والقضايا المرتبطة بالفقه وتطبيقاته، وبعض زوايا أصول الفقه ايضاً.
من هنا مقترَحي المتواضع هو أنَّه قد صار من الضروري لعلم أصول الفقه أن يتلقّى هذا الموضوع بجديّة، ويُفرد له باباً خاصاً، كما يُفرد للاستصحاب أو الإجماع أو الإطلاق والتقييد أبواباً، فعلم أصول الفقه ـ بنسخته المدرسيّة ـ معنيٌّ أن يفرد باباً مستقلاً لشبكة العلاقة بين التشريعات والتاريخ وتأثير هذه الشبكة على مناهج الاجتهاد وطرائقه. والسبب في هذا الاقتراح أنَّه عندما يتلقّف الدرس الأصولي الإسلامي بجديّة موضوعاً من هذا القبيل، فإنّه يمكنه أنْ يضع له ضوابطَ أوّلاً، ويبيّن لنا إذا كان صحيحاً أو غير صحيح ثانياً، وبهذا نخرج من حالة الفوضى التي تتجاذبها الكلمات هنا دون وضع ضوابط محددة، نحو فهم تنظيري حقيقي لفكرة التاريخيّة. لذلك أعتقد بأنَّ الوقت قد حان للدرس الرسمي الأصولي لكي يتناول موضوعاً حسّاساً من هذا القبيل.
2 ـ ما معنى التاريخيّة التي نقصدها هنا؟
لا نقصد بالتاريخيّة المفهوم الذي يختاره بعض الباحثين في الفكر الحديث، والذي يجعل النصّ الديني نتيجاً للثقافة الزمنيّة، بل نقصد بالتاريخية أنْ نضع تشريعاً صدر في لحظة زمانيّة ومكانيّة معيّنة في سياق التاريخ ونفهمه ضمن هذا السياق، بمعنى أنَّنا حينما نقوم بفهم نصّ معين نأخذ بعين الاعتبار السياق الزمني المحيط بهذا النصّ، ولا نقصر نظرنا فقط على السياقات اللفظيّة المحيطة بالكلام، وإنَّما نلاحظ المسار التاريخي الذي ولد هذا النصّ في داخله؛ لأنّ النصّ ـ أيّ نصّ ـ هو جزءٌ من التاريخ وقطعة منه، وهناك علاقة تواشج قويّة ما بين النص وسياقه التاريخي بمعنى من المعاني.
3 ـ لماذا الخوف من التاريخيّة؟
لقد تحوّلت كلمة "التاريخيّة" إلى فزّاعة عند بعض الناس؛ لأنَّهم يتصوّرون أنّنا عندما نقول بأنّ النصّ الديني ـ سواء كان القرآن أم السُنَّة ـ يرتبط بالتاريخ، فهذا معناه أنَّنا نريد أنْ نجعل كلّ الشريعة من شؤون القرون الهجرية الثلاثة الأولى، وبما أنًّنا نتكلّم عن التاريخيّة فهذا معناه أنَّنا نريد أنْ نلغي الأحكام الشرعية، ونعتبر أنّ الشريعة حلٌّ لأهل القرون الأولى وليست حلاً لزماننا.
هذا النوع من التعاطي مع موضوع تاريخيّة التشريع بالمفهوم الذي عرّفنا به التاريخيّة، أو دور الاجتهاد في فهم تاريخيّة التشريع، هو في الحقيقة أقرب إلى المنهج الإعلامي التهويلي من جهة، وإلى ملاحظة التطبيقات الفوضويّة للمنهج التاريخي من جهة ثانية، وإلّا فالمنهج التاريخي الذي ندّعيه لا يقول بأنَّنا نضع الأحكام جانباً أو أنّها حلول لأهل القرون الهجريّة الأولى دون زماننا، وإنَّما الموضوع متحوّل ومتغير، بمعنى أنّ التاريخية يمكن أنْ نطبّقها لإلغاء حكمٍ بشكل كلّي تقريباً، وممكن أنْ نطبقها لتقييد حكم، وممكن أنْ نطبقها لتوسعة حكمٍ، فلا يتصور شخص بأنّ التاريخية تعني أنَّنا نريد أنْ نضع هذه الأحكام جانباً ونرميها، فالتاريخيّة لا تعني تصفية حساب مع الشريعة، بل في بعض الأحيان على الأقلّ تبدو التاريخيّة أقدر على إبقاء الشريعة حيّة من اللاتاريخيّة.
4 ـ أنواع التاريخيّة وتطبيقات عمليّة لها
في البداية يجب التنويه إلى أنّ كلّ الأمثلة والتطبيقات التي سأذكرها لا يعني ذكري لها بالضرورة أنّني أوافق عليها، وإنَّما أذكرها من أجل تقريب الفكرة للأذهان ليس أكثر.
4 ـ 1 ـ التاريخيّة الملغية للحكم الشرعي
التطبيق الأوّل: تعدّد الزوجات
ذكر بعض الباحثين مثل الدكتور نصر حامد أبو زيد (2010م)، والأستاذ محمود محمد طه (1985م)، وآخرين، أنّ تعدد الزوجات إنَّما جاء نتيجة وضع اقتصادي واجتماعي كانت عليه المرأة في ذلك الزمن، والإسلام كان بصدد إلغاء التعدّد مطلقاً، وكان يقوم بذلك بشكل تدريجي، فعندما قال أربع، لم يكن يقصد التحديد النهائي، وإنّما بيان أنّ أكثر من أربع غير جائز. وهذا يعني أنّ العرب قبل الإسلام كانوا يتزوّجون بعشرة وعشرين مثلاً، فكان الإسلام بصدد وضع خطة تدريجيّة لإنقاص هذا العدد إلى الواحدة، فكانت خطوة الأربعة، فالأربعة حكم تاريخي ( ).
التطبيق الثاني: الجهاد الابتدائي
يرى أمثال الدكتور عبد الكريم سروش أنّ الجهاد الابتدائي شريعة مرحلة التأسيس، بمعنى أنّه شُرِّعَ في تلك المرحلة التي كان الإسلام فيها في طور التأسيس، أما وقد دخل الإسلام طور الاستقرار فلم يعد لهذا الحكم من وجود.
هذا النمط من استخدام التاريخيّة معناه أنَّنا نستخدم التاريخيّة لاكتشاف أنّ حكماً من الأحكام كان مؤقتاً في زمان معيّن وانتهى ولم يعد له وجود، وهذا هو عادةً الذي يقلق التيارات المدرسيّة في المؤسّسة الدينية؛ لأنّه يوحي بأنَّ الفهم التاريخي هو فهم يعطّل الشريعة ويضعها في إطار التاريخ.
4 ـ 2 ـ التاريخيّة المضيّقة للحكم الشرعي
هذا النوع من الفهم التاريخي لا يلغي الحكم وإنَّما يقوم بتضييقه وتحديده، ونذكر هنا مثالين:
التطبيق الأوّل: الإكثار من النسل
ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في موضوع الإكثار من النسل الذي وردت روايات عديدة تحث عليه.. ذكر أنّ حثّ النصوص على الإكثار من النسل صدر في ظروفٍ كان المسلمون فيها قلّة ويحتاجون للكثرة العدديّة؛ لأنّ الحروب كانت تقوم على الكثرة العدديّة، ولأنَّ استقرار المجتمع كان يقوم عليها أيضاً، لكنْ عندما كثر المسلمون لم تعد هناك حاجة لفكرة من هذا القبيل، فلم تعد الكثرة العدديّة معياراً في الحروب من وجهة نظر الشيخ مكارم الشيرازي( ).
معنى هذا الكلام أنّ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي يقول بأنّ استحباب الإكثار من النسل ثابتٌ وما يزال إلى الآن ثابتاً، غاية الأمر هو ثابت في حال حاجة المجتمع إلى الكثرة العدديّة، فربما في بعض الأماكن نحث الناس على الإكثار من النسل، وفي أماكن أخرى عندما يكون عندنا كثافة سكّانية إسلاميّة لا نفعل ذلك، فالشيخ مكارم الشيرازي لم يلغِ هنا الحكمَ الشرعي وإنَّما قام بتضييقه وفقاً لفهمه التاريخي، وذلك أنّه وَضَعَ النص في داخل السياق التاريخي، وقال بأنَّ هذا النص جاء يحكي عن حالةٍ كان المسلمون فيها قلّة، فاحتاجوا إلى الكثرة العدديّة، فحثت النصوص عليها، فهذا الحكم لم ينتهِ، بل في كلّ ظرف تكون الكثرة العدديّة فيه حاجة للمجتمع الإسلامي يكون الحكم باستحباب الإكثار من النسل ثابتاً، وفي كلّ موضع تكون الكثرة العدديّة عبئاً على المجتمع الإسلامي يكون الإكثار من النسل غير مستحبّ.
وعليه، فهذا التمييز لا يلغي الحكم، وإنَّما يقوم بتضييقه تضييقاً متناسباً مع كيفيّة الربط ما بين صدور النصوص وما بين التاريخ.
التطبيق الثاني: تناول الملح قبل الطعام
يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين (2001م) عن استحباب تناول الملح قبل الطعام بأنّ هذا الاستحباب ثابتٌ، لكنّه متناسب مع الظروف المناخية للبلاد الحارّة التي كان النبيّ وأصحابه وأهل بيته ـ في الأعم الأغلب ـ يعيشون فيها، وكان تناول هذه الكميّة من الملح أمراً طبيعياً، وبالتالي لا أستطيع ـ والكلام للشيخ شمس الدين ـ أنْ أعمّم هذا الحكم إلى البلاد الباردة التي يكون تناول هذه الكميّة من الملح فيها مضرّاً( ).
إذن، يدّعي الشيخ شمس الدين هنا بأنّ هذا الحكم ليس فيه إطلاق، فهو لا يريد أنْ يقول بأنّ هذا الحكم قد انتهى وعلينا رميه نهائيّاً، بل يقول بأنّني أستنتج ـ من خلال الربط ما بين السياق الزماني المكاني وما بين هذا النصّ ـ أنّ هذا الحكم مضيقٌ، وأنّه خاص بظروف مناخيّة حارّة، وليس شاملاً لمطلق الظروف المناخيّة، فلم نلغِ حكماً هنا بل أعدنا فهمه بطريقة مقيّدة.
4 ـ 3 ـ التاريخية الموسعة للحكم الشرعي
هذا النوع من التاريخيّة يؤدّي إلى توسعة الحكم الشرعي، خلافاً لما يتصوّره بعض الناس من أنّ التاريخية تلغي الحكم دائماً، ففي هذه الحالة العكسُ هو الذي يجري، حيث تكرّس التاريخيّة الحكم وتوسّعه من خلال تحريره من شكله الزمني.
التطبيق الأول: شرط الرؤية في ثبوت الهلال
يرى العلامة السيد محمد حسين فضل الله (2010م) أنّ شرط الرؤية في ثبوت الهلال جاء متناسباً مع الوضع التاريخي، بمعنى أنّ رسول الله لمَّا قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، كان يتكلّم ضمن فضاء تاريخي خاصّ لم يكن اليقين بولادة الهلال وخروجه من المحاق فيه متيسراً إلَّا من خلال الرؤية، فجاءت النصوص تتكلّم عن الرؤية، فالرؤية هنا ليست معياراً وإنَّما هي طريق للحكم الأصلي الذي هو اليقين بولادة الهلال وكونه قد أشرق على الأرض.
هذا الفهم التاريخي الذي أقامه فضل الله، والذي يربط بين تعبير «صم للرؤية» وبين طبيعة مستوى معرفة الناس آنذاك بولادة الهلال أو عدم ولادته، لم يلغِ موضوع رؤية الهلال ولم يلغِ موضوع الهلال، وإنَّما أثبت رؤية الهلال بوصفها طريقاً لإثبات بدايات الشهور، كما أثبت أيضاً كلّ طريق آخر يفيد اليقين بولادة الهلال، فإذا تطوّرت العلوم ظلّت الرؤية سبيلاً من سبل إثبات بدايات الشهور، لكن حصل توسّع، فأصبحت الرؤية وأيّ طريق آخر يعطي نفس نتيجتها ـ أعني اليقين بولادة الهلال ـ كافيين في إثبات بدايات الشهور.
إذن، هذا الفهم التاريخي لم يلغِ الشريعة، وإنَّما قام بتعديل طريقة فهمنا للشرط الحقيقي، فبدل ما كنَّا نتصوّره شرطاً حقيقيّاً نهائيّاً ـ وهو الرؤية بما هي حدث خاص ـ صار الشرط الحقيقي لبدايات الشهور هو عبارة عن اليقين، وصارت الرؤية مجرّد طريق اعتُمدَ عليه تاريخياً، لأنَّه لم يكن هناك طريق آخر شبيه به.
التطبيق الثاني: موضوع حرمة الاحتكار
المشهور بين الفقهاء أنّ الاحتكار خاصّ بأربعة أو ستة أشياء وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت( )، إلَّا أنّ بعض الفقهاء لم يخصّصوا الاحتكار بتلك الأشياء الستة، وقالوا إنَّما جاءت النصوص لكي تضع حرمة الاحتكار في إطار هذه العناصر الستة؛ لأنَّ هذه العناصر كان بها قوام طعام الناس، ويجب علينا أنْ نفهم هذه النصوص ضمن سياقها التاريخي، ومعنى ذلك ليس أنْ نرمي هذه النصوص جانباً، أو نقول: هذه للتاريخ ولا يوجد حكمٌ شرعي الآن، بل معناه أنّ موضوع حكم الاحتكار صار أوسع، وأنّ الشريعة تحرّم احتكار مطلق الأطعمة كما يذهب إليه بعض الفقهاء ـ ومنهم بعض المعاصرين( ) ـ أو أنّ الشريعة تحرّم مطلق احتكار ما هو ضروري للناس كما يذهب إليه فقهاء آخرون، فهذه الأربعة أو الستة التي ذكرت في النصوص لم تذكر إلَّا مثالاً تاريخيّاً، لا أكثر ولا أقلّ.
نلاحظ هنا كيف أنّ التاريخية تساعدنا أحياناً في إعادة تكوين الفتوى، لا في رمي الفتوى ولا في إلغاء علاقة الشريعة بواقعنا المعاصر، وإنَّما في إعادة بناء الفتوى بحيث تصبح أقدر على الاستجابة في بعض الأحيان لحاجات العصر.
التطبيق الثالث: الشطرنج
أفتى السيد روح الله الخميني (1989م) بأنّ لعبة الشطرنج لم تعد محرّمةً الآن، وكان الأساس لهذه الفتوى هو الفهم التاريخي للنصوص الحديثيَّة المحرِّمة للشطرنج، حيثُ كانت الشطرنج في وقت صدور نصّ تحريمها آلةً من آلات القمار، فعندما قال النصّ: الشطرنج حرام، فإنّ ما فهمه الناس في ذلك الزمان هو أنّ هذا الرمز القماري محرمٌ، أي آلات القمار محرّمة، فلمّا تحولت حالة الشطرنج من أن تكون آلة قمار ـ كما هو الشائع ـ إلى أنْ تصبح آلة غير قمارية تغيَّر الحكم.
إذن، عندما نقول بالفهم التاريخي للنصّ:
أوّلاً: ليس المقصود هنا بالفهم التاريخي هو ما يطرحه بعض المفكّرين، في مقابل ما تطرحه المؤسّسة الدينيّة، بل الفهم التاريخي الذي مارسته المؤسّسة الدينية نفسها نفسها ولو بشكل جزئي دون المستوى المنشود، وسأشير بعد قليل إلى شيء من ذلك.
ثانياً: عندما نتحدّث عن الفهم التاريخي، لا نقصد بالضرورة أنّ هذه الأحكام صارت جزءاً من الماضي وانتهت ولم يعد هناك حكم للشريعة في هذا الموضوع، بل بالعكس، فالفهم التاريخي تارةً يضع الحكم جانباً ويقول: هذا خاصّ بتلك الأزمنة تماماً مثل الأحكام المنسوخة، وتارةً أخرى يقوم بإعادة إنتاج الحكم بطريقة تجعله أقدر على الاستجابة لمتطلّبات المرحلة الراهنة.
5 ـ التاريخيّة في نصوص أهل البيت
هناك مجموعة من النصوص الحديثيّة الصادرة عن أهل البيت تشير إلى أنّ بعض الأحكام قد صدرت مرتبطةً بسياق تاريخي معيّن، وبعبارة أخرى: عندنا مجموعة من النصوص في مجموعة من الوقائع ذكر أهل البيت أنفسهم فيها بأنّ النصّ الذي قاله النبيّ قد قاله ضمن سياق تاريخي، ويجب عليكم أنْ تفهموه ضمن سياقه التاريخي. وهذا الكلام معناه أنّه يوجد في التراث الحديثي ما يعزّز فكرة تاريخيّة بعض الأحكام، بمعنى إعادة الاجتهاد في الأحكام بطريقة تربط النصّ بالتاريخ، ونستنتج الحكم بعد هذا الربط. وسأذكر ثلاثة أمثلة على هذه النصوص:
5 ـ 1 ـ النهي عن أكل لحوم الحمير
عندما خرج المسلمون باتجاه خيبر ــ والتي تفصلها عن المدينة مسافة كبيرة جداً ــ وبعد أنّ طالت رحلة الجهاد في خيبر أصدرَ رسول الله قراراً وحكماً حاسماً بالنهي عن أكل لحوم الحمير، وقال بأنّه لا يجوز أكل لحوم الحمير، فقد ورد عن ابن عمر: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ»( ).
عندما نراجع الروايات نجد مجموعة من النصوص الصادرة عن الإمام محمد الباقر (114هـ)، يوضح فيها النهيَ النبوي في خيبر، ويعيد صياغة فهمنا لطبيعة هذا النهي عبر وضعه في سياقه التاريخي. ففي رواية يقول الإمام الباقر: «نهى رسول الله‘ عنها [لحوم الحمير] وعن أكلها يوم خيبر. وإنَّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت؛ لأنَّها كانت حمولة الناس، وإنّما الحرام ما حرَّم الله عز وجل في القرآن»( ).
وهذا النصّ معناه أنّ لحم الحمير ليس حراماً، ونهي النبي عنه كان لأنَّ الناس عند رجوعهم من خيبر لم يكونوا يمتلكون إلا الحمير إذا أرادوا أن يركبوا على شيء أو يضعوا أمتعتهم، فإذا قاموا بذبحها ليأكلوها ستقع الناس في مشكلة! فكيف يرجعون إلى المدينة في ظلّ هذه المسافة الطويلة وبعد رحلة جهاديّة شاقّة استمرت عدّة أشهر؟!
إذن، النهي النبويّ هنا هو نهيٌ حكومي سلطاني ولائي، وهو يعني أنّه نهي تاريخي، أي أخذ بعين الاعتبار فيه سياقٌ معين كان المسلمون يعيشونه في تلك اللحظة، وجاء الإمام الباقر ليوضح لنا هذا السياق. فنفس أنْ يُلفِتَ الإمام الباقر نظرنا إلى هذه القضية يجعلنا نتنبه إلى أنَّه من الممكن أنّ بعض النواهي والأوامر النبويّة كان لها سياقات تاريخيّة معينة، ولا ينبغي لنا أن نقتطع النصّ ونُخرجه عن سياقه الزمكاني، فلكي نفهم النص لا بدّ أن نربطه بسياقه التاريخي، وإذا ربطناه به استطعنا فهمه بشكل أفضل.
وعليه، ستكون النتيجة: إذا احتاج الناس إلى الحمير لنقل أمتعتهم ونفوسهم حَرُمَ أكلها، وإذا لم يحتاجوا إلى ذلك جاز أكلها، فأكل لحم الحمير ليس حراماً، وإنّما كان حكماً مؤقّتاً له علّة، فإذا تجدّدت هذه العلّة تجدّد الحكم.
وفي روايةٍ أخرى، يقول الراوي: سمعت أبا جعفر يقول: «إنَّ الناس أكلوا لحوم دوابهم يوم خيبر، فأمر رسول الله‘ بإكفاء قدورهم ونهاهم عن ذلك ولم يحرّمها»( ). فعندما نلاحظ تعبير نهاهم عن ذلك ولم يحرّمها، نفهم أنَّها حلال، لكن كان هناك ظرفٌ خاص دفع رسول الله‘ لإصدار النهي.
إذن، لاحظوا كيف أنّ الإمام بنفسه ينبّهنا إلى أنّ النصوص يمكن أن تصدر ضمن سياق معيّن وأنّ علينا قبل أنْ نفهم النص أن نلاحظ كلّ السياقات التاريخيّة المحيطة، ونحاول اكتشاف العلاقات والترابطات لكي نفهم الحكم الحقيقي والعنوان الحقيقي الذي دار الحكم عليه.
5 ـ 2 ـ حرمة بناء الجدران حول البساتين
توجد رواية نبويّة معروفة حرّم فيها رسول الله‘ على المسلمين أنْ يضعوا جدراناً على بساتينهم، بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يدخل إلى البستان، ففي الرواية سأل علي بن جعفر أخاه موسى بن جعفر عن رجل يمرّ على ثمرة فيأكل منها؟ قال: «نعم، قد نهى رسول الله‘ أن تستر الحيطان برفع بنائها»( ).
لكن في رواية أخرى منقولة عن مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمّد الصادق، أنّه سُئل عما يأكل الناس من الفاكهة والرطب مما هو لهم حلال؟ فقال: «لا يأكل أحد إلا من ضرورة، ولا يفسد إذا كان عليها فناء محاط، ومن أجل الضرورة نهى رسول الله‘ أن يُبنى على حدائق النخل والثمار بناء، لكي يأكل منها كلّ أحد»( ).
يفهم من هذه الرواية أنّ النهي النبويّ عن بناء سور حول البساتين ليس حكماً شرعيّاً أصلياً إلى يوم القيامة متحرّراً من أيّ قيد، وإنَّما جاء هذا النهي النبوي لأنّ الناس كانت محتاجة للأكل، فإذا وضع كلّ واحد حول بستانه حائطاً، فإنَّ المارة والمسافرين سيقعون في ضيق، لذلك أصدر النبيّ قراراً حكومياً أو ولائيّاً أو تاريخياً نهى المسلمين فيه عن ذلك، ثمّ بعد ذلك بيّن الإمام أنّ الأمر بنفسه ليس حراماً، مما يعطينا دلالة على عمليّة الربط التاريخي في هذا الموضوع.
5 ـ 3 ـ الفرار من الوباء
ثمّة روايات عديدة عن الرسول تنهى الذي يكون في منطقةٍ فيها طاعون أن يخرج منها، ولذلك يُفتي الكثير من فقهاء المسلمين إلى اليوم بأنّه إذا كنتَ في منطقة فيها طاعون أو وباء لا يجوز لك الخروج منها.
يشرح الإمام جعفر الصادق لنا هذا النهيَ النبوي، ففي صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد الله× عن الوباء يكون في ناحية المصر، فيتحوّل الرجل إلى ناحيةٍ أخرى، أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره، قال: «لا بأس، إنّما نهى رسول الله‘ عن ذلك لمكان ربيئةٍ( ) كانت بحيال العدو، فوقع فيهم الوباء فهربوا منه، فقال رسول الله‘: الفارّ منه كالفارّ من الزحف، كراهية أن يخلو مركزهم»( ).
الإمام الصادق يبيّن لنا أنّ الموضوع مرتبط بفقه الجهاد، فالنبيّ نهى عن خروجهم؛ لأنّ خروجهم سيؤثر على الجهاد وستصبح مراكزهم التي يشغلونها خالية، وليس مرتبطاً بكلّ من ضرب الطاعون مناطقهم وبلدانهم.
تؤكّد هذه التوجيهات الحديثيّة من أهل البيت على أنّ بعض النصوص تصدر مرتبطةً بسياقات تاريخيّة، وأنَّه لا يمكن للفقيه أن يحرّر النص من سياقه التاريخي مطلقاً ويأخذه ويقتطعه ويجعله كأنّه معلّق في الفضاء، ثمّ يقرأه كأنّه مجرّد ألفاظ، وإنّما عليه أنّ يمدّ شبكة من العلاقات بين النص والتاريخ، لكي يفهم النصّ أكثر، ولكي يعي السياقات التي أتى فيها، والعلل والمناطات التي جاء النص لأجلها، وهذه نقطة في غاية الأهميّة والضرورة.
6 ـ هل التفت الفقهاء إلى موضوع التاريخيّة؟
على الرغم من وجود نصوص روائيّة تتعلّق بموضوع التاريخيّة، إلا أنّ التفات الفقهاء إلى هذا الموضوع كان قليلاً، باستثناء العصر الحديث.
سأشير إلى هذه القضيّة بشكل سريع، فأقدم نصّ وجدتُه يتحدّث عن ربط النصوص بالتاريخ وبالزمان والمكان، هو نصّ الشيخ الصدوق (381هـ) عندما أراد أن يفهم النصوص الحديثيّة في باب الطبّ فذهب إلى أنّ بعض النصوص الطبيّة لا ينبغي أن نأخذها على إطلاقها مثلاً: أكل الطعام الفلاني دواء من الشيء الفلاني، يقول الصدوق بأنّ هذه لا تؤخذ على إطلاقها؛ لأنّ بعض هذه النصوص مرتبطٌ بهواء مكّة والمدينة ومناخهما، فلا يمكنك تطبيقه في هواء خراسان وبلخ وسمرقند وآذربيجان مثلاً؛ لأنَّ المناخات مختلفة( ).
هذا النصّ يشير إلى أنّ الصدوق تنبّه إلى عمليّة ربط ما بين مجموعة من النصوص والفضاء المكاني والمناخي، وطلب منّا الصدوق أن لا نفسّر النص بطريقة متحرّرة من هذا القيد المكاني والمناخي، ويعتبر هذا النص للصدوق من أقدم النصوص الصريحة الواضحة التي تربط بين النصّ وسياقه المنفصل.
أيضاً نصٌ آخر للصدوق، وذلك عندما ينقل رواية عن أبي عبد الله الصادق قال: «مَنْ ركب زاملة( ) ثمّ وقع منها فمات دخل النّار»( )، حيث يتنبّه في تعليقه على هذا الخبر إلى ربط هذا الحكم الموجود في هذا النصّ بعادة تاريخيّة كانت متداولة عند شباب العرب، فهو يقول بأنّ بعض شباب العرب، ولأجل بيان الفروسيّة والقوّة، كانوا يتباهون أنَّهم قبل أن يقف الفرس يقفزون عنه، فكانوا أحياناً يقعون على رؤوسهم أو يموتون، فيكون ذلك إيقاعاً للنفس في التهلكة أو ضرباً من الانتحار. هذا الحكم عند ربطه بالوضع التاريخي نكتشف أنَّه تطبيقٌ لحكم اسمه حرمة تعريض النفس للتهلكة، وبهذه الطريقة أستطيع فهم الحكم بشكل أفضل في هذا النصّ( ).
بعد ذلك، نجد الشهيد الأوّل (786هـ) يتكلّم أيضاً عن دور العادات في فهم الأحكام حيث يقول: «يجوز تغيّر الأحكام بتغيّر العادات، كما في النقود المتعاورة( )والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأقارب فإنها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه.. ومنه الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق، فالمرويّ تقديم قول الزوج، عملاً بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول، ومنه إذا قدم شيئاً قبل الدخول كان مهراً إذا لم يسمّ غيره، تبعاً لتلك العادة. فالآن ينبغي تقديم قول الزوجة، واحتساب ذلك من مهر المثل»( ).
نلاحظ هنا أنّ النصّ عندما يأتي تكون له شبكة من العلاقة بالعادات، فيجب فهم النصّ بشكل نعي معه ارتباطاته التاريخيّة، وهذا ليس أمراً سهلاً.
وعلى هذا القياس مواضع عديدة في كلمات الفقهاء عبر التاريخ، حيث تتكرّر جمل من نوع: «حكم في واقعة» أو «هذا حكم في واقعة فلا يُتعدّى» وهكذا.
هذه التعابير التي يستخدمها الفقهاء تدلّ على أنّ فكرة التاريخيّة كانت موجودة في أذهانهم، فعندما يجدون حكماً شرعيّاً في روايةٍ، ثمّ يلاحظون أنّ هذا الحكم لا ينسجم مع الروايات الأخرى ولا مع القواعد الشرعيّة ولا مع التأصيلات الفقهيّة الأخرى فهم يقولون ـ وبخاصّة في باب القضاء ـ: هذا أصدره الإمام "قضيّة في واقعة"، أي إنّ هناك واقعة معينة، نحن لا نعرف ملابساتها، صدر هذا الحكم مرتبطاً بها. وعليه لا يمكننا العمل بهذا الحديث ورمي كلّ القواعد الفقهيّة التي تقف خلفها مجموعة من النصوص الحديثيّة الكثيرة.
إذن، فكرة "قضيّة في واقعة" لو حلّلناها نجد أنّها أيضاً ليست إلا محاولة لجعلهم بعض النصوص مرتبطاً بسياق زمني وظرفي خاصّ، ومن ثمّ عدم إمكان تعميمه أو عدم إمكان الأخذ به اليوم.
ومن الطبيعي أنّ هذه التطبيقات التي فعلها الفقهاء لقضيّة الحكم التاريخي كانت نادرة ـ خاصّة في الوسط الشيعي ـ فعلى امتداد ألف سنة، من القرن الثالث الهجري إلى القرن الثالث عشر الهجري، أستطيع أنْ أقول: إنّ المزاج الشيعي العام ليس ذاك المزاج المتحمّس كثيراً لمقاربة النصوص في ضوء السياقات التاريخيّة بهذه الطريقة.
إلا أنّه في العصر الحديث تغيّر الوضع تغيّراً هائلاً وكبيراً جداً داخل فضاء المؤسّسة الدينية، فضلاً عن ما هو خارج ذلك. وفي تحليلي الشخصي، هذا التغير كان نابعاً في أحد أسبابه من دخول المؤسّسة الدينيّة غمار المتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة، فاكتشفت أنّ تجربة الحياة السياسيّة ـ الاجتماعيّة تتطلّب أحكاماً متغيّرة ـ ولائيّة وسلطانية زمنية ـ من قبل إمام المسلمين.
لقد انتبه فقهاء الإماميّة، ولا سيما فقهاء القرن العشرين، إلى نقطة في غاية الأهميّة، وهو تنويع شخصيّة النبيّ والإمام، فقد كانوا يتصوّرون أيَّ نصّ يصدر من الإمام تبليغاً لحكم شرعي، وعندما خاضوا التجربة السياسيّة ـ منذ الحركة الدستوريّة إلى يومنا هذا ـ اكتشفوا أكثر أنّ الذي يدير أمر الجماعة لا يمكن أن يُصدر أحكاماً ثابتة فقط، بل لا بد أن يصدر أيضاً أحكاماً مرحليّة، تبعاً لمتغيّرات وضرورات وقتيّة، وبمفعولٍ رجعي استنتجوا أنّه لا بدّ أن يكون الأئمّة خلال ثلاثة قرون قد أصدروا كميّةً غير قليلة من الأحكام ـ وبخاصّة في المجال السياسي والجهادي والعسكري والأمني والقضائي ـ تكون لها صفة الزمنية أو التاريخيّة.
إنَّ المسلمين قد حصلت عندهم متغيّرات سياسية واجتماعية هائلة خلال القرون الثلاثة الأولى من الهجرة النبويّة، ومن غير المعقول أنّ أهل البيت وهم يديرون جماعة اجتماعيّة وسياسية أصدروا فقط أحكاماً فتوائية ولم يصدروا أحكاماً زمنيّة مرتبطة بالسياقات التاريخية. هذا الشيء شعر به الفقيه شعوراً قوياً عندما خاض التجربة بنفسه فبدأوا يتنبّهون إلى وجود شخصيّتين للنبي والإمام، وهذا ما طرحه السيد محمّد باقر الصدر (1980م) بشكلٍ صريح، حيث يقول معلّقاً على الرواية الواردة عن النبيّ من «أنّه قضى بين أهل المدينة في مشارب النخل: أنّه لا يمنع نفع الشيء. وقضى بين أهل البادية: أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ، وقال: لا ضرر ولا ضرار( ). فإنّ من الواضح لدى الفقهاء أنّ منع نفع الشيء أو فضل الماء ليس محرّماً بصورة عامة في الشريعة المقدّسة، وفي هذا الضوء نعرف أنّ النبي لم يحرّم على أهل المدينة منع نفع الشيء، أو منع فضل الماء بصفته رسولاً مبلّغاً للأحكام الشرعية العامة، وإنّما حرّم ذلك بوصفه وليّ الأمر المسؤول عن تنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع وتوجيهها توجيهاً لا يتعارض مع المصلحة العامة التي يقدّرها. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الرواية تعبّر عن تحريم النبيِّ‘ بالقضاء لا بالنهي، نظراً إلى أنّ القضاء لون من الحكم»( ).
فالسيّد الصدر يرى أنّه إذا جاء في الرواية تعبير (قضى) فهذا يدلّ على أنّ الحكم صدر من النبي أو الإمام من موقع كونه قاضياً، والقاضي عادةً لا يصدر فتوى، وإنّما يصدر أحكاماً جزئيّة لها علاقه بوضع معيّ، فانتبه الصدرُ إلى وجود شخصيّة أخرى للإمام أو للنبيّ، وهي شخصيّته القيادية الإدارية الاجتماعيّة التي تتطلّب صدور مجموعة من القوانين المرتبطة بالسياقات الزمنيّة، إضافة إلى شخصيّته التبليغيّة التي تبيّن الأحكام الكليّة للشريعة.
هذا التنويع في شخصيّة النبيّ والإمام استمرّ بعد الصدر الى يومنا هذا، فالكثير من الفقهاء ـ بمن فيهم الكثير من المعاصرين مثل الشيخ مكارم الشيرازي والسيد السيستاني وغيرهما ـ بدأوا يتقبّلون بشكلٍ واضح فكرة وجود تشريعات ولائيّة أصدرها أهل البيت. وهذا الأمر فتح المجال على إعادة قراءة شخصيّات المعصوم وطبيعة التشريعات التي يصدرها، هل هي مؤقّتة أو غير مؤقّتة؟ مرتبطة بوضع تاريخي أو غير مرتبطة بوضع تاريخي؟ الأمر الذي أعطى مجالاً كبيراً للتحليلات الجديدة.
على سبيل المثال، موضوع الرقيّة في الحرب، هل أسرى الحرب يصبحون أرقاء أو لا ؟ بعض العلماء قالوا بأنّ القرآن عندما تكلّم عن الأسرى قال: (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَاْرَهَا) (محمّد: 4). ولم يقل: استرقّوهم، فلا يوجد في القرآن استرقاق أحد بالحرب. والسبب في عدم ذكر الاسترقاق في القرآن يرجع ـ كما يقولون ـ إلى أنّ مسألة الاسترقاق خاضعة للظرف التاريخي؛ لأنّ أدبيات الحروب بين الناس كانت قائمة على ذلك، فالمسلمون فعلوا ذلك والشريعة سمحت لهم بفعله من باب المعاملة بالمثل، بل إنّ قواعد القانون الدولي كانت قائمة على ذلك والجميع كان يتقبّل مثل هذا. ومعنى ذلك أنّ تشريع الاسترقاق له صبغة تاريخيّة، ولا يعني أنَّه زال، بل إذا رجعت الناس تتعامل بهذه الطريقة فلا مانع من العودة، أما وقد انتهت هذه العادة وانتهت هذه التبانيات العرفية في الحروب فإنّ هذا الحكم يكون قد انتهى.
أيضاً ما ذكره العلامة فضل الله والعلامة شمس الدين من أنّ المرأة لا يمكنها أن تقود المسلمين، وأنّ شرط الذكورة ثابتٌ في وليّ الأمر، قالا: إنّ هذا الشرط منسجمٌ مع طبيعة الدولة ما قبل الحديثة التي كانت دولةَ الفرد الواحد، أمّا اليوم وقد تغيّرت الدولة وأصبحت دولة المؤسّسات، فإنّ نقلَ الحكم المرتبط بمنع المرأة عن تولّي السلطة في ضمن سياق تاريخي إلى سياق تاريخي آخر، يحتاجُ إلى دليل، فلم يوافقوا أو على الأقلّ أثاروا بعض التحفّظات في هذا الموضوع( ).
كلمة أخيرة
خلاصة ما أريد قوله: إنّ موضوع التاريخيّة من الأهميّة بمكان؛ لأنَّ لديه القدرة على تغيير الكثير من صياغات الفتاوى، ولا أقصد الصياغة اللفظيّة بقدر ما أقصد شكل الفتوى وبُنيتها، ولأنّ لديه القدرة على إيجاد نوع من التناسب بين الأحكام الشرعية ومتغيّرات الحياة.
لكنّ نقطة القلق الأساسيّة في موضوع التاريخيّة هي الفوضى، لأنَّ كل واحد لا يعجبه حكم معين سيقول: هذا الحكم متناسب مع العرب في ذلك الزمان، والآن لا وجود له. والسؤال الأساس هو: كيف نضبط الإيقاع بالنسبة لهذه المسألة؟ هذا السؤال يمثل مشكلة في موضوع التاريخيّة.
ما فعله السيد الصدر عندما قال: كلمة «قضى» قرينة على أنّ الحكم ولائيٌّ، مهمّ جداً؛ لأنّه أعطانا قرينة على طبيعة الحكم هل هو ولائي أو غير ولائي؟ نحن بحاجة إلى أنَّنا عندما ندّعي أنّ هذا الحكم فوق تاريخي (ميتاتاريخي) أو أنّ هذا الحكم تاريخي ــ بالمعنى الذي نقصده هنا للتاريخيّة وفق ما أوضحناه سابقاً ـ أن نأتي بشواهد سواء كانت من السياقات أو من القرآن أو إشارة هنا وهناك، فإذا لم نأتِ بشواهد على دعوى كون هذا الحكم أو ذاك تاريخيّاً فلن يبقى حجر على حجر في الفقه.
وأعتقد أنّ هذا هو السبب الذي يجعل المؤسّسة الدينية إلى اليوم قلقة من موضوع التاريخيّة، ولو أنّ المؤسّسة الدينية قامت هي بنفسها بالبحث في الموضوع ووضعت هي الضوابط والمعايير لأدّى ذلك إلى شيء من الراحة النفسيّة، ولدخلنا في مرحلة الفهم التاريخي للتشريعات التي صدرت خلال القرون الثلاثة الهجريّة الأولى بما يمكّننا من إنتاج صياغات مختلفة لطبيعة الحكم الشرعي في زماننا الحاضر.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

يعتبر الإتصال ع...

يعتبر الإتصال عملية ديناميكية حتمية في حياة الإنسان ولا يقوم للمجتمع الإنساني قائمة بدونه، فمنذ وجود...

أولا : التعريف ...

أولا : التعريف بالمصطلح " قبل أن نتناول المصطلحين الواردين في عنوان البحث أعني كلمتي " الغزل " و " ا...

تعد التكنولوجيا...

تعد التكنولوجيا والابتكار في مجال التعليم من أهم المحاور التي تشكلت حولها النقاشات الحديثة في العصر ...

اللاسعات لها مج...

اللاسعات لها مجسات حول فمها، تطلق خلايا لاسعة تسمى الحويصلات الخيطية ؛ وذلك للإمساك بالفريسة. ويشبه ...

يعد الذكاء االص...

يعد الذكاء االصطناعي Ai أحد فروع علم الحاسوب، وإحدى الركائز األساسية التي تقوم عليها صناعة التكنولوج...

Meat and rice ...

Meat and rice Each country in the world has a different cuisine. One of the best dishes in my cou...

انحطاط الغرب بع...

انحطاط الغرب بعيون أبنائه! ................... الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. ...

Handling Extrem...

Handling Extreme Market Events: 1. Diversification: The AI model is a combination of the assets, ind...

Mesures pour év...

Mesures pour éviter ou réduire les effets négatifs sur l'environnement Prise en compte des préoccupa...

Understanding t...

Understanding the impact of the internet on college students requires a comprehensive review of lite...

The light house...

The light house 'Pharos' Location: it was built by Ptolemy I and completed by his son Ptolemy II, o...

Overall, while ...

Overall, while square shapes may experience higher heat gain and potentially less efficient airflow,...