Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

انتبهت الى ان اهلي يسمون المكان الذي نسكنه بالخان . ثم انتبهت الى من يأتي عندنا يصفنا بسكان الخان . في الطابق الأرضي من مبنى عتيق على الشارع العام ، وعلى مقربة منه دكاكين كثيرة من كل نوع ، اضيف حتما بعد الفراغ من بناء الدار في يوم من ايام العهد العثماني الطويل . وبين بابنا الكبير و الشارع بوابة خشبيه اصغر منه، بواجهنا باب الخان على مسافة ست خطوات او سبع. درجحجري مكشوف يصعد الى الطابق الاعلى الذي كانت غرفة طلي بابها بالاخضر ، ولا اراه الا وهو جالس الى طاولته، يفكك ويركب آلات صغيرة بين يديه - ويقولون انه الراهب يوسف . وان الشيخ هو القس ابونا حنا ، الذي يجب ان نقبل يده كلما التقيناه. وكانت رائحة البخور تعبق في هذا الطابق الاعلى طوال ايام الاسبوع، بعد ان ذهب اخي الى المدرسة ، فاشترت امي منها بالكيلة عدة اوقيات صبتها البائعة في الطنجرة . لان اني تقول ان لا قدرة لها على شراء الحليب الا في المناسبات و عند الضرورات . وبين صعودي الا الطابق العلوي لاقول للراهب يوسف (( صباح الخير)) ، ثم الا طابق الكنيسة الاعلى لانظر من السطح المكشوف الذي امامها الى الصبية تاذي هم في الاسفل يلعبون في الحارة ، وبين نزولي لارى كيف يجري طبخ الهيطلية ، وضعته على الارض في الركن ، اوسطني امي بالا اكثر من الخروج و الدخول، وبان اكون ((عاقلا))، ريثما تذهب مع جدتي الى السوق لشراء الخضره ، فلاخرج الى الحارة . عند باب الدكان المقابل ، لقيت احد اصدقائي ، وعندما تمشينا وراء الجامع ، التقينا صبيان اخران ، وقال لهما صديقي :((امه طبخت اليوم هيطلية . وبعد قليل كان مزيد من اطفال الحي قد تجمعوا عند المنعطف ، وقلت لهم :(( امي طبخت هيطلية!))
ثم التفت الى الاخرين ، قلت :((امي ذهبت مع جدتي الى السوق )) ، وقلت للاولاد : (( اقعدوا!)). وقعدوا على الارض جميعا فيحلقة حول الطبق الابيض . وصحت بهم : ((انتظروا ! لا تاكلوا بايديكم ! عندنا معالق ! ))
وصاحت بنا صيحة اهتز بها الخان ، وبقيت اركض حتى وصلت باب كنيسة المهد مبهور النفس ، وحيدا لا رفيق لي . وخفت ان ارجع الى البيت . وتوقفت عند بوابات مخازن ((السوفنير)) اتفرج على ما في واجهاتها من مسابح و صور و صلبان من الصدف ، بعد مدة زايلني الخوف ، وهو يضحك ويقول:((تعال ادخل! تطعيم غيرك بالملعقة، وجرني الى الداخل ، حين قالت:((يا شيطان! اتوزع اكلنا على الناس؟ اتحسب نفسك ابن سليمان جاسر؟ اشبع اولا وبعدين اطعم الناس. صبيحة اليوم التالي اصعدني ابي مع اخي الى الكنيسة مبكرا، و اوقفني في احد صفي الصبية المرتلين مع انني لم اكن اعرف ما الذي يرتلون بالسريانية، فقد جعلت اتمتع بما اسمع و احاول ان ارفع صوتي معهم ، كلما رفعوا اصواتهم كنت ارقب الولد حامل المبخرة وهو يدنو بها من أبونا حنا ، فيأخذ أبونا بملعقة صغيرة قليلاً من البخور من طاسة نحاسية في يد الولد ، فقد قال أبي إن مع سحب البخور تنطلق الملائكة ، وأدعوها كالأشباح - مخلوقات وسطاً بين الطيور والنساء - وأنني ألعب معها ، وتطرقع بأذيالها الطويلة ، وليدق عليه بذيله إلى أن يشبع! كان أخي يذهب إلى مدرسة الألمان في المدرسة . وفي الحال أسرعت بي إلى مدرسة الروم ، وهي أقرب مسافة من مدرسة الألمان ، خليه عندنا وروحي مع السلامة . ولكننا في اليوم التالي انشغلنا جميعاً بالانتقال إلى بيت آخر ، في المدرسة رأيتهم يكتبون . وركزت على مسند ثلاثي الأرجل ، ويبلل طرف القلم على حافة لسانه ، وينظر إلى اللوح ويكتب . أو أحد أيامي الأولى في مدرسة الروم» الواقعة خلف كنيسة المهد . وأنا على «بنك طويل بين أربعة أو خمسة أطفال
هل أكتب أنا أيضاً» قال : «هل أحضرت معك دفترك وقلمك وقلمك ، ومنه تسلقت إلى الأغصان العليا . ولحق بي جماعة من الصبية . من أعمار شتى . كنت أرى معظمهم كبيراً بالنسبة إلي : في العاشرة ، ووجدت جدتي في الحاكورة تنظر إلى ظل شجرة اللوز الواقع على حائط البيت . أتعتقد أنني لا أعرف متى تكون ساعة الظهر؟» - لا أدري . ابنك جاءكانت لي علاقة خاصة بجدتي ، اقتربت منها - وكان فستانها طويلاً يكاد يبلغ الأرض . قل ذلك لأمك . أو انتظر إلى أن يعود أبوك في المساء عندما دخلت البيت ، المعلم يقول أن علي أن أخذ معي دفتراً وقلماً للمدرسة»- صحيح؟ ومن أين أجيء لك بالدفتر والقلم؟»الدفتر والقلم بنصف قرش . لكي لا نضطر إلى أخذ الخروفين للرعي كل يوم . وأنا أربت على ظهر هذا وظهر ذاك . صبت أمي الطعام في قصعة كبيرة على الأرض وجلسنا حولها . وقالت أمي : «ههالآن دق الظهر!إذ راحت قباب الأديرة المنبثة في البلدة تقرع أجراسها لتعلن انتصاف النهار ، بعد الغداء عدت إلى المدرسة ، كتب المعلم حروفاً على اللوح ، وواجهته مليئة بالدفاتر والأقلام والمحايات . وخذ أحسن قلم وأحسن دفتر» وعدت إلى البيت ، وحلت عقدتين وانفتح المنديل عن أربع أو خمس قطع نقدية ، وقالت : «خذ . وقالت : «خذ . تمددت فوقها على بطني ، وكتبت - والأسطر تهبط بي من اليمين الى اليسار . ودر بالك على الدفتر . وقلت للمعلم : جلبت معي الدفتر والقلم فقال : : «طيب ، قال : «هل أعرف أنا القراءة حتى أقرأ دفترك بعد الظهر ، قعد إلى المنضدة ، بس بلا ! وأنتم الجالسين في الخلف، وسقط رأسه على صدره ، دفنا وجوهنا بين سواعدنا ، عندما رفعنا رؤوسنا كان الياس قد كتب ثلاثة أو أربعة أسماء على اللوح . رفع رأسه على أثرها مباشرة ، وأجال عينيه الرهيبتين في وجوه الأولاد . » وفتح الولد يده ، كان اسم رفيقي على البنك «عبده» . كانت أمه منشغلة عنا بالخياطة عندما جلسنا في ركن من غرفة بيتهم ، وأدخلها بين طرفيها ، شيء رائع قال : «أعمل لك واحدة؟» قلت : «أنا أعملها» . وتقول بين حين وآخر «بلا دوشة يا جماعة» وخرجنا إلى الشارع ، وجيوبنا ملأى بعتاد من الطقاعات . سألني «أين الدفتر؟ قلت : «عند المعلم وسألني أخي يوسف على العشاء السؤال نفسه ، وأجبته بالجواب نفسه . ويكلموننا بلغة لا نفهمها ، وباب كنيسة المهد خلفنا ، دق الظهر فجأة فرحت راكضاً إلى البيت . ورشها بالملح والبصل يشهي الشوربة العدس ، واستلقيت على ظهري . فنفرت بي أمي : «قمقم إلى مدرستك أم أنك نسيت ؟ وقل للمعلم أن يعيد إليك دفترك! وقالت جدتي : مهلك على الصبي . خليه يستريح قليلاً» فقالت أمي «والله أفسدته» وخرجت - إلى بيت عبده . وبقينا أنا وعبده لعدة أيام ننزل إلى الوادي ، وفي أوقات انصراف أولاد المدارس نعود إلى البيت ، كانت دارنا تتألف من غرفة صغيرة مبنية من الحجر الخشن ، تتصل بها حاكورة فيها شجرتا رمان وشجرة لوز أو شجرتان ، وعلى مقربة منها الخشية» المبنية أيضاً من حجر خشن ، وأمامها حوش مبلط بالحجارة ، ويمتد من بوابة عتيقة اختلط فيها الصفيح الصدئ بالخشب المتأكل ، وكانت غرفتنا وخشيتنا كلتاهما مسقوفتين بالأحطاب ، إذ تمتد من حائط إلى حائط ، وكان من مهام أبي وبقية أفراد العائلة بين الحين والحين ، وكثيراً ما كنت أستلقي على ظهري ، وحملته بين شدقيها إلى الحاكورة لتأتي عليه بطريقتها القططية . غير أنها استطاعت أخيراً أن تدفعه الى الفرار والاختفاء عن العين - عن عينها على الأقل . أما من ناحية بوابة المدخل ، أو شارع النجمة كما سمي فيما بعد . ولكن المدرج - ولم يكن عريضاً جداً - كان يبدأ بعمارة فخمة على اليمين ، مبنية من حجارة مدقوقة منتظمة ، لها بوابة حديد صبغت ذات يوم غابر بطلاء أبيض . وعلى اليسار جدار عال ، عند قاعدته معلف يربط عنده حمار أبيض ، كان هذا حمار الحكيم الرومي» ، إنه أشهر طبيب في البلدة والكل يطلقون عليه التسمية الوحيدة التي يحترمونها : «الحكيم الرومي» فكنا نراه وهو راكب حماره - المتميز طبقيا عن الحمير الكثيرة في البلدة بلونه الارستقراطي الأبيض ، بينما كانت الحمير الأخرى أقرب إلى الرمادي المسكين في لونها - وحقيبته في خرج الحمار الأحمر ، في طريقة إلى دار هذا المريض أو ذاك لم تقسم بيني وبين هذا الطبيب أو حماره أية مودة . وروثه وتبنه يملأن الدرجتين أو الثلاث التي في المستهل . تريثت طويلاً للنظر إلى ذيله وحشراته ، ولكنني ربما مددت يدي الى الذيل لأكف حركته عني ريثما امر . ونفذت إلى الدرجات العليا وأنا مرتعب أبكي . علمني ألا أقترب من الحمير أو أن أعمل الحذر الشديد إذا اضطررت إلى الاقتراب منها ومن أضرابها . وطلبت إلي جدتي أن أنزل الدرج إلى دار الحكيم الرومي قبل أن يخرج في دورته التطبيبية في طرقات البلدة ، ولو لم أدرك أن الأمر خطير على نحو ما ، لما جازفت بدخول العمارة التي يقيم فيها الحكيم ، وحماره مربوط بالمعلف على بعد خطوة أو خطوتين من الباب . واقتحمت طريقي إلى الداخل . وإذا هو في الرواق يتهيأ للخروج . وقبل أن أقول له - كما علمتني جدتي – «صباح الخير » سألني يتهيأ للخروج . يا ولد» قلت متلعثماً : «أمي مريضة يا حكيم ومن هي أمك؟» - أمي؟ أمي ، بسبب لهجته الرومية ، بأن أنزلت مخدة من المعزل ، ووضعتها على الحصيرة ، غير أن أمي دست يدها تحت وسادته ، شكراً» أخذ الحكيم الشلن والقمه الجيب الصغير في الصدرية التي يرتديها تحت سترته ، وأخرج ساعة صفراء فتحها ليعرف الوقت ، وقد خاطت لي أمي كيساً أحمله حول عنقي أضع فيه لوازمي المدرسية ، المدرسة : وهي أيضاً غرفة واحدة كبيرة بنيت قرب كنيسة حديثة التشييد ملأى بالمقاعد الطويلة دخلت المدرسة ، وقال بالفصحى «لماذا تأخرت يا فتی قلت : «أخذت الحكيم الرومي لأمي . كان أخي يوسف يكبرني بأربع سنوات ، أنه ينتمي إلى عالم غير عالمي - عالم الكبار لا يقول كلمة إلا وأفتح أذني لسماعها ، فأشعر أنه يدخلني الى عالمه . فيطلعني على الصور ، ويتباهى بمقدرته على قراءة ما تحتها من كلمات إنكليزية لم يكن قد جاء دوري لتعلمها وجاءني ذات مساء بصندوق من الورق المقوى ، وتفرج كان في الوسط فتحة مستديرة جعل فيها عدسة مكبرة كنا نسميها بنورة» أعلى واحداً من محورين جانبيين فيه ، بينهما يتحرك شريط ورقي لصقت عليه صور من كل نوع ، سحرني صندوقه وتمنيت لو يبقيه في البيت تحت يدي ، ويسمح لي بأخذه إلى أصدقائي للتفرج عليه . ولكن من أين لنا «التعريفة» العزيزة؟ وقفنا قرب الصندوق نتفرج على شكله وزينته ، إلى أن جاء رجلان أو ثلاثة ، والصقوا عيونهم بالعدسات ، وراح هو يدير المحور من الأعلى ، بعنتر وعبلة ، كانت مزية «الخشاشي» (كما كنا نسمي بيتنا ذاك وجود الحاكورتين اللتين تحويان عدة أشجار رمان ، ودالية تحاول عبثاً الانتشار فوق المدخل المؤدي إلى الدار . فيهما دهشت حين رأيت أمي ، وبعد يومين أو ثلاثة تعود إلينا ومعها طفل صغير في قماط . ولما سألتها : من أين جئت به؟» قالت مستضحكة :
يا حبيبي وكان الطفل أخي عيسى الذي يصغرني بست سنوات ، إضافة إلى
المعلم جريس وفيهما بدأت أعي الفوارق بين طبائع الناس وتصرفاتهم ، وهي تنتهي دائماً إلى عراك كنت أصر على المضي فيه إلى أن يعترف الآخرون بأنني أنا الغالب . ففي إحدى النهايات العراكية» تألب علي عدد من الصبية ، وبينهم أخوان مشهوران بالعض . وفي الوقت نفسه غرز الآخر أسنانه في صدري ، وكاد يقتلع حلمتي ولم يتركاني إلا عندما رأيا الدم يملأ وجهي ويسيل
وفي بيتنا ذاك ، إذ غادر أبي الفراش ، وكنت أنشد الدفء على صدره فلا أنام إلا قربه . فاندفع الثلج أكواماً مع انفتاح الباب إلى الداخل ، والثلج في كل مكان إلى
ما هو أعلى من الركبة؟ يبدو أن أبي كان يتوقع هجوم الثلج هذا ، راح يدفع بها التراكمات عن الباب ، وتسلّق إلى سطح الدار ، ولم يعد
إلينا إلا بعد أن أخلى السطح ، بحيث لا
يستغرقنا الذهاب إليه إلا بضع دقائق . تسلّقنا جداراً خلف الدار ، مهده أبي على شكل مدرج ليسهل صعودنا عليه . ومنه نسلك طريقاً بمحاذاة حواكير عليا ، وهل هربنا أرنباً من أرانبه؟ وما كنا لنجرؤ على شيء من ذلك ، لأنّ له كلباً ضخماً أسود ، رغماً عن كلبه الغليظ . أم يحملها إلى المزبلة القريبة ، وقال البعض إنه يخرج
أمعاءها ، رأيت عندكم هراً كثير الحركة» . قلنا : «لا ، لتفترس صوصاً أو أرنباً
قلنا : «أبداً يا عم بطرس . قلنا : «بارك الله في همتك . بعد دار بطرس الكندرجي ، كنا نمر بدار قديمة تتألف من بيتين صغيرين بنيا على حافة الحاكورة المشرفة على الطريق ، يجلس متربعاً على صخرة قـرب الباب ، والدربكة والدف ، حيث يعمل الصدافون الماهرون جالسين على الأرض ، ويغنون أغاني جماعية على إيقاع مناشيرهم ، وكلما مررت في طريقي إلى ملعب الدير بالعم حنا ذيبان الضرير ، كنت أتخيله يعزف على عوده ، وبعزفه وغنائه يملأ
الطريق فرحاً حتى بلوغي بوابة الدير . واستبشروا بعودته خيراً لأكثر من سبب : فهو معلم أولادهم المشهود له بمعرفة العربية والسريانية والإنكليزية ، حتى أنه ليحول القداس صباح كل أحد إلى جنة صغيرة من عذوبة
التي تعلو الخرابة» ، والغرف الأرضية منها اختنقت أبوابها
ونوافذها بركام الحجارة الساقطة وإذا ما أزيحت الحجارة ، قبل دخول المدرسة ، المتحدي بعد قليل مرتعباً وهو يقسم أنه رأى مارداً عملاقاً أبيض الشكل ، لولا أنه استطاع الهرب من بين يديه . بينما يكون العديد من آبائنا ، منهمكين برفع
الردم على ظهورهم وبناء الكنيسة الجديدة . مؤكداً على إيقاع الكلمات :
يا عونيا! وين الجمل؟
وشو بيشربي؟
قطر الندى
ودائماً أتخيل «عونيا» بدوية سمراء سوداء العينين. وشكلها إجاصي يستدق إلى رأس مسمار براق : أدير حولها الخيط الغليظ ابتداء من طرفها الدقيقة وصعوداً نحو جسمها العريض المزين بدوائر ملونة ، وهكذا يفعل رفيقي بفرانته ، ثلاثة!» ويقذف كلانا بحنكته الخاصة بالفرانة على أرض مبلطة ، وتحافظ على توازنها . يروح يسوطه بهذا الخيط على ساقه بحيث يلتف عليها وينسحب بسرعة ، ونتجه بعد شتاتنا المنتشر ، وعدد من العصي المتباينة الطول والمتانة ، وعلى اليمين واليسار منه نافذتان طويلتان ، الغربية منها تطل على الخرابة ، وترى منها جرسية دير أبونا أنطون العالية وساعتها الدقاقة ، والشرقية ترى منها عن بعد قباب كنيسة المهد ، ويجلس الصبية على مقاعد مدرسية طويلة رتبت في صفين ، بينهما الممشى
كانت هناك خمسة أو ستة بنوك ، وفيه أخي يوسف وعدد ممن الأولاد يكبرونه سناً . هؤلاء كان المعلم جريس يعهد للأولاد «الكبار» بتلقينهم الأبجدية والصفحات الأولى من القراءة . وجاء وقت كلفني فيه أنا أيضاً بتعليم مجموعة منهم القراءة – كنت عندها في صفاً صفاً يتعامل المعلم مع تلاميذه : يُنزل الصف الواحد ليكون أفراده نصف دائرة على جانب من منضدته جاعلاً «أشطرهم» أقربهم إليه ، وإذا غضب على كسل واحد منهم ، أو قد يرسله إلى نهاية الخط ليكون الطش» ويضحك عليه الجميع ، هذا إذا لم يطعمه» أيضاً ضربتين أو أكثر على راحة يده بإحدى العصي التي على منضدته . بمقدار
رضاه . وقد احتفظ أخي بمكانه في رأس الخط من صفه طيلة المدة التي قضاها في تلك المدرسة ، أما أبي فلم يخطر له يوماً أن يحل ضيفاً على المدرسة . حين
جابهته به أمي بصراحتها المشهورة - وقالت لها : سنقدم له ما فيه النصيب ، فقد سررنا حين وجدناه منطلق الكلام ، وبعد
أن جلسنا جميعاً على الحصيرة ، وجلس هو على وسادة ، قال
لأبي : ابنك هذا ، سيصبح كلاهما معلماً تفاخر به بيت لحم كلها . ولكن أحد الطلاب الكبار - وكان لطوله أقرب شكلاً إلى الرجال - واسمه جليل ، حين أمره المعلم بإعادة قراءة إحدى الجمل من كتاب القراءة العربية ، بل أمره بأن يترك مكانه وينزل الى رأس أحد المقاعد «السفلى» ، وهدده بأنه إذا لم يكف عن إضافة الشيطنة إلى كسله ، سيعاقبه بأربع عصي . جعلت المعلم يصيح به :
جليل! تعال ، واندفع نحو المعلم لكي يمسك به ، وانطلق الولد من زقاقه باتجاه المنضدة ، ثمن دخل بسرعة الفسحة الضيقة بين الجدار الآخر والمقاعد ، والمعلم يكاد يمسك به ولا يمسك ، فيكرر المعلم بصوت رخيم مقولته التي يفرح الأب
لسماعها : «العصا لمن عصى . والعصاة بين الصبية كانوا حقاً كثيرين . أو الانسراح بين الناس في سوق البلدية القريب . وكان هناك من اشتهر بأنه لا يخاف العقاب ، وحالما يدير ظهره عائداً إلى مكانه من المقعد ، يضحك للأولاد متباهياً ، دلالة على عدم شعوره بالألم ، يكثف جلد راحة اليد ويقويها ، ففي ساعات الظهيرة ، عندما تغمر الشمس سلاسل الحواكير ، ويهز رأسه عالياً سافلاً ، ويخيل إلينا أنه يستجيب
لكلماتنا بحركات رأسه. في معظمها أناشيد وتراتيل تعود إلى أزمان سحيقة في القدم ، لحنها آباء الكنيسة الأوائل في أنطاكيا ودمشق والقدس والرها ومدن وادي الرافدين ، وفق مقامات كان الشمامسة يتقنونها . يساعده في ذلك أحياناً رهبان شباب من دير مار مرقس بالقدس ، التنويعات السبعة لكل لحن ينوع بها ، بدون التدوين الموسيقي الذي عرفته ألحان الكنائس فيما بعد . وعلى كل منهما مخطوطة ضخمة ، كانت هذه الكتب السريانية القديمة كنزاً تحتفظ به الكنيسة بعناية خاصة واعتزاز كبير .


Original text

انتبهت الى ان اهلي يسمون المكان الذي نسكنه بالخان . ثم انتبهت الى من يأتي عندنا يصفنا بسكان الخان . وهو لا ريب قد كان خانا في يوم مضى: غرفة فسيحة، في الطابق الأرضي من مبنى عتيق على الشارع العام ، وعلى مقربة منه دكاكين كثيرة من كل نوع ، كأبواب المخازن اكاد اعجز عن زحزحنه لثقله، وقرب الباب مرحاض صغير، اضيف حتما بعد الفراغ من بناء الدار في يوم من ايام العهد العثماني الطويل .وبين بابنا الكبير و الشارع بوابة خشبيه اصغر منه، لعزل المكبنى قليلا عن الشارع، فحالما نتخطى عتبتها العالية، بواجهنا باب الخان على مسافة ست خطوات او سبع. درجحجري مكشوف يصعد الى الطابق الاعلى الذي كانت غرفة طلي بابها بالاخضر ، حيثيقيم رجل ذو لحيه قصيره يلبس السواد دايما ،ولا اراه الا وهو جالس الى طاولته، يفكك ويركب آلات صغيرة بين يديه - ويقولون انه الراهب يوسف . وهو خبسر في تصليح الساعات و الاجهزه الآليه. ومن جانب غرفته يصعد الدرج المكشوف الى طابق ثالث كانت فيه((العلية)). وان الشيخ هو القس ابونا حنا ،الذي يجب ان نقبل يده كلما التقيناه. وكانت رائحة البخور تعبق في هذا الطابق الاعلى طوال ايام الاسبوع، بعد ان ذهب اخي الى المدرسة ، بقيت مع امي و جدتي ارقب طبخة وعدتني امي بها : ((هيطلية)) - ارز بالحليب . كانت بائعة الحليب قد طرقت بابنا ، فاشترت امي منها بالكيلة عدة اوقيات صبتها البائعة في الطنجرة . لان اني تقول ان لا قدرة لها على شراء الحليب الا في المناسبات و عند الضرورات . وبين صعودي الا الطابق العلوي لاقول للراهب يوسف (( صباح الخير)) ، ثم الا طابق الكنيسة الاعلى لانظر من السطح المكشوف الذي امامها الى الصبية تاذي هم في الاسفل يلعبون في الحارة ، وبين نزولي لارى كيف يجري طبخ الهيطلية ،وضعته على الارض في الركن ، عندما يعود ابوك من الشغل، وهو مثلك يحب الهيلطلية .اوسطني امي بالا اكثر من الخروج و الدخول، وبان اكون ((عاقلا))،ريثما تذهب مع جدتي الى السوق لشراء الخضره ،ما كدت ابقى وحدي ، حتى تطلعت الا الاكلة البيضاء الشهية بحرقة ، فلاخرج الى الحارة . واخذت لطلعة اخرى قبل الخروج. عند باب الدكان المقابل ، لقيت احد اصدقائي ، فقلت له : (( اتعرف؟ امي طبخت لنا اليوم هيطلية )).وعندما تمشينا وراء الجامع ، التقينا صبيان اخران ، وقال لهما صديقي :((امه طبخت اليوم هيطلية .) وبعد قليل كان مزيد من اطفال الحي قد تجمعوا عند المنعطف ، وقلت لهم :(( امي طبخت هيطلية!))
قال احدهم ((كذاب!))
تعال وشوف)).ثم التفت الى الاخرين ،قالوا :((ولكن نخاف من امك)).قلت :((امي ذهبت مع جدتي الى السوق )) ، ادخلت اصدقائي ، ودفعنا معا الباب الحديدي الكبير لمسكننا .رغما عن العتمة ، كانت قصعة الارز بالحليب المستقرة على الارض تتوهج كالشمس . لمزيد من الضوء ، وقلت للاولاد : (( اقعدوا!)).وقعدوا على الارض جميعا فيحلقة حول الطبق الابيض . وصحت بهم : ((انتظروا ! لا تاكلوا بايديكم ! عندنا معالق ! ))
و راحوا هم يأكلون . واكلت مع الاكلين . دخلت امي و ورائها جدتي، وصاحت بنا صيحة اهتز بها الخان ، و رمى الصبية عنهم المعالق وانقذوا بسرعة العفاريت من الباب المفتوح ، واطلقوا سيقانهم للريح ، وقبل ان تطبق يدى امي علي، وقد تشتت اصدقائي في كل اتجاه ، وبقيت اركض حتى وصلت باب كنيسة المهد مبهور النفس ، وحيدا لا رفيق لي . وانا السبب . وخفت ان ارجع الى البيت .لم اجد احدا من رفقتي العب معه . عل طرف من الساحة ، كان رجل يسحب الماء من دلو جلدي من بئر كبير الفم ، ويصبه في جزن حجري مستطيل قربها،عليها ، وضخامة ابدانها، واخفافها المفلحة، التف حولها واخشى الدنو منها كثيرا.الطريق المجاور ،وتوقفت عند بوابات مخازن ((السوفنير)) اتفرج على ما في واجهاتها من مسابح و صور و صلبان من الصدف ، مقطور بعضها ببعض. بعد مدة زايلني الخوف ، ولكن،فخرج الى اخي ،وكان قد عاد من المدرسه، وهو يضحك ويقول:((تعال ادخل! تطعيم غيرك بالملعقة،) وجرني الى الداخل ،لاقابل امي ،حين قالت:((يا شيطان! اتوزع اكلنا على الناس؟ اتحسب نفسك ابن سليمان جاسر؟ اشبع اولا وبعدين اطعم الناس.)
ثم التفتتالى اخي ،واذا وجدت انه بقي عندها شيء من الحليب ، ولا اريد ان ارى وجهه!))
وفي المساء، اقعد مع ابيك و اخيك .اتريد المغرفة لتاكل بها،ام ان الملعقة تكفيك؟))
صبيحة اليوم التالي اصعدني ابي مع اخي الى الكنيسة مبكرا، و اوقفني في احد صفي الصبية المرتلين مع انني لم اكن اعرف ما الذي يرتلون بالسريانية، فقد جعلت اتمتع بما اسمع و احاول ان ارفع صوتي معهم ،كلما رفعوا اصواتهم كنت ارقب الولد حامل المبخرة وهو يدنو بها من أبونا حنا ، فيأخذ أبونا بملعقة صغيرة قليلاً من البخور من طاسة نحاسية في يد الولد ،المبخرة ، ويرسم عليها إشارة الصليب .وتمنيت لو أنني أحمل أنا أيضاً مبخرة مثله ، لأبخر الناس ، والدار ، والدرج ، فقد قال أبي إن مع سحب البخور تنطلق الملائكة ، وتستمطر بركات الله على كل من يتلقى الرائحة الزكية . جعلتني أتوهم أحياناً أنني أراها وأنني ألعب معها ، وأدعوها كالأشباح - مخلوقات وسطاً بين الطيور والنساء - وأنني ألعب معها ، لأن أمي لن ترى
الملائكة ، وكنت أسمع أحاديث عن الشياطين أيضاً : وهي سوداء ، وتنفث من أفواهها النيران ، وتطرقع بأذيالها الطويلة ، غير أنها لا تحب رائحة البخور ، ولا التراتيل الجميلة . ولا أظن أنها تحب مصادقة الأطفال ، أو أكل الأرز
بالحليب ، أغلقت بابنا
الحديدي في وجهه . وليدق عليه بذيله إلى أن يشبع! كان أخي يذهب إلى مدرسة الألمان في المدرسة . فقالت له أمي : «خذ أخاك
معك ، عندما أخذني أخي إليها معه ، نظر إلي نظرة سريعة ،وهز رأسه ، وفي الحال أسرعت بي إلى مدرسة الروم ، وهي أقرب مسافة من مدرسة الألمان ، وقابلت المعلم . فقال لها : «أهلاً وسهلاً . خليه عندنا وروحي مع السلامة .أرجعه إلى البيت . وليأت إلينا بعد سنة» . صباحاً ، قبل الساعة الثامنة . ولكننا في اليوم التالي انشغلنا جميعاً بالانتقال إلى بيت آخر ،في المدرسة رأيتهم يكتبون . ويكتب على الورق الأبيض المسطر . وركزت على مسند ثلاثي الأرجل ، رغم مسحها ، وتفارقت الاخشاب بعضها عن بعض . والصبية يكتبون . ويبلل طرف القلم على حافة لسانه ، ويكتب . وينقرم القلم ، فيبريه بالبراية .ويغمس الأسود المبري بلعاب لسانه . وينظر إلى اللوح ويكتب . كان ذلك أول يوم لي ، أو أحد أيامي الأولى في مدرسة الروم» الواقعة خلف كنيسة المهد . قلت للمعلم ، وأنا على «بنك طويل بين أربعة أو خمسة أطفال
مثلي «معلمي ، هل أكتب أنا أيضاً» قال : «هل أحضرت معك دفترك وقلمك وقلمك ، واكتب . ومنه تسلقت إلى الأغصان العليا . ولحق بي جماعة من الصبية . وما كدنا نلعب قليلاً حتى رأينا المعلم يدق جرسه مرة أخرى . من أعمار شتى . كنت أرى معظمهم كبيراً بالنسبة إلي : في العاشرة ، والثانية عشرة ، وربما كان بعضهم في الرابعة عشرة . وأكثرنا حفاة ، غير أن بعض الأولاد الكبار يلبسونأحذية ضخمة ، في ساعة الغداء . ووجدت جدتي في الحاكورة تنظر إلى ظل شجرة اللوز الواقع على حائط البيت . أتعتقد أنني لا أعرف متى تكون ساعة الظهر؟» - لا أدري . أخرجنا المعلم ، وقال ارجعوا في الساعة الواحدة .فصاحت جدتي : «مريم! حضري الغداء . ابنك جاءكانت لي علاقة خاصة بجدتي ، من وراء ظهر» أمي . وإذا فعلت أنا شيئاً لا ترضى عنه أمي وعرفت به «أطعمتني قتلة» .فكانت جدتي تتستر علي . اقتربت منها - وكان فستانها طويلاً يكاد يبلغ الأرض . تلمسته ، فقالت :ها؟ عندك شيء تقوله؟ فعلت شيئاً غير لائق؟فقلت وأنا أنظر في عينيها العسليتين : «ستي ، قل ذلك لأمك . أطلب ما تريد من أمك . أو انتظر إلى أن يعود أبوك في المساء عندما دخلت البيت ، كانت أمي تتأمل في الطنجرة» ، المعلم يقول أن علي أن أخذ معي دفتراً وقلماً للمدرسة»- صحيح؟ ومن أين أجيء لك بالدفتر والقلم؟»الدفتر والقلم بنصف قرش . قال وقبل أن تأكل ، خذ شوية حشيش للخروفين . أخرجت شيئاً من الحشيش الذي كنا نجمعه في كيس كبير في طلعاتنا الى الحقول ، لكي لا نضطر إلى أخذ الخروفين للرعي كل يوم . المربوطين في «الخشية» ، وحالما رأياني ، ووضعت لهما الحشيش ، وأقبلا عليه بنهم ، وأنا أربت على ظهر هذا وظهر ذاك .صبت أمي الطعام في قصعة كبيرة على الأرض وجلسنا حولها . وقالت أمي : «ههالآن دق الظهر!إذ راحت قباب الأديرة المنبثة في البلدة تقرع أجراسها لتعلن انتصاف النهار ، وأصوات الأجراس تتمازج عبر الفضاء ، وهاجة فرحة . بعد الغداء عدت إلى المدرسة ، ولعبنا ، ودخلنا الصف . ولم يكتب أحد شيئاً هذه المرة . كتب المعلم حروفاً على اللوح ، ومررنا بدكان حنا الطبش ، وواجهته مليئة بالدفاتر والأقلام والمحايات . دخلت وسألت البائع : «عمي ، بدي قلم ودفتر» .* معك تعريفة» . وخذ أحسن قلم وأحسن دفتر» وعدت إلى البيت ، ووجدت جدتي في الحاكورة تلم الغسيل . وضعت يدها في عبها ، ووأخرجت منديلاً معقوداً . وحلت عقدتين وانفتح المنديل عن أربع أو خمس قطع نقدية ، التقطت منها نصف قرش مدوّراً مثقوباً ، وقالت : «خذ . ووجدت جدتي في الحاكورة تلم الغسيل . ونظرت إليها راجياً ، ودون أن تقول كلمة واحدة ، ووأخرجت منديلاً معقوداً . نقدية ، وقالت : «خذ . ولا تخبر أمك . يلاً من قدامي ، عنفص!» وركضت معنفصاً إلى دكان الطبش ، وناولت صاحبه قطعة النقد العزيزة ، وناولني دفتراً وقلماً . لم تكن أمي في البيت ، تمددت فوقها على بطني ، والباء؟ عصا نائمة ، وامتلأ السطر . ولكنني وجدت أن أسطري ، غصباً عني ، تميل انحداراً ، مهما حاولت . غيرت وضع الدفتر أمامي ، وكتبت - والأسطر تهبط بي من اليمين الى اليسار . وامتلأت الصفحة أسطراً مائلة ، في ذلك المساء ، ودر بالك على الدفتر . ولا تضيع القلم : أتسمع ؟ وجدتي غمزتني جانبياً ، وقلت للمعلم : جلبت معي الدفتر والقلم فقال : : «طيب ، اقعد مكانك واكتب .برى المعلم لي القلم ، واستعرت ممحاة ، وكتبت ، ويضحكون ، ويتململون ، وذاك يركل قدمي ،عند الغداء سألتني أمي : «هل رأى المعلم دفترك»قلت : نعم . قال : «هل أعرف أنا القراءة حتى أقرأ دفترك بعد الظهر ، قعد إلى المنضدة ، أنت العريف اليوم . كل من يتكلم أو يضحك أو يتنفس ، أنتم أولاد الصف الأول والثاني ، الصفحة خمسة ، بس بلا ! وأنتم الجالسين في الخلف، اجعلوا سواعدكم على البنك ، هكذا ، وأنزلوا رؤوسكم وأسندوها عليها ،وناموا . وسقط رأسه على صدره ، دفنا وجوهنا بين سواعدنا ، كما أوصانا المعلم ، في الثرثرة والضحك . عندما رفعنا رؤوسنا كان الياس قد كتب ثلاثة أو أربعة أسماء على اللوح . وجعل علامة ضرب إزاء أحدها . وانطلقت فجأة شخرة عاتية من المعلم ، رفع رأسه على أثرها مباشرة ، وأجال عينيه الرهيبتين في وجوه الأولاد .نحو اللوح ، فنادى أولها : «جريس ! شرف» وخرج جريس من بين رفاقه ، وسار خائفاً نحو المعلم «والله يا معلمي ما حكيت . ولا ضحكت قال المعلم ،» وفتح الولد يده ،كان اسم رفيقي على البنك «عبده» . وقد لازمني في العودة ، وهو يقول : أتعرف كيف تصنع «طقاعة؟ دفترك هذا فيه ١٦ ورقة كل ورقتين تجعل منهما طقاعة» . كانت أمه منشغلة عنا بالخياطة عندما جلسنا في ركن من غرفة بيتهم ، على
رافضاً أول الأمر . وبس! قال . فرضيت . وناولته الدفتر . وطواهما بشكل خاص ، وأنا أراقبه ، ثم طوى زاوية من الطوية ، وأدخلها بين طرفيها ، فضغط عليها بذراعه ، أعاد الطي ، شيء رائع قال : «أعمل لك واحدة؟» قلت : «أنا أعملها» .واقتلعت ورقتين من وسط الدفتر ، وعملت طقاعة ، وأم عبده ترقبنا بنصف عين ، وتقول بين حين وآخر «بلا دوشة يا جماعة» وخرجنا إلى الشارع ، ونحن نطرقع ، وجيوبنا ملأى بعتاد من الطقاعات . ووجدنا أصدقاء ، وزعناها عليهم . وتمزقت الطقاعات كلها .* لماذا؟ ليتفرج عليه ؟⁠
لكي لا يضيع . سألني «أين الدفتر؟ قلت : «عند المعلم وسألني أخي يوسف على العشاء السؤال نفسه ، وأجبته بالجواب نفسه . دائماً جرس؟ قال «بلا مدرسة يا شيخ! أتجيء معي؟ قلت : «يلا!» وخرجنا من باب الملعب راكضين ، في اتجاه ساحة المهد . وينطلق منها رجال ونساء طوال ، شقر ، كبار السن ، يحملون آلات التصوير ، ويكلموننا بلغة لا نفهمها ، فيومئون إلينا لكي نقف أمامهم ، وباب كنيسة المهد خلفنا ، ويصوروننا . دق الظهر فجأة فرحت راكضاً إلى البيت . أحضر بصلة ، واكسرها ، ورشها بالملح والبصل يشهي الشوربة العدس ، والعدس يشهي للمزيد من البصل ، واستلقيت على ظهري . فنفرت بي أمي : «قمقم إلى مدرستك أم أنك نسيت ؟ وقل للمعلم أن يعيد إليك دفترك! وقالت جدتي : مهلك على الصبي . خليه يستريح قليلاً» فقالت أمي «والله أفسدته» وخرجت - إلى بيت عبده . وبقينا أنا وعبده لعدة أيام ننزل إلى الوادي ، أو نتسكع في ساحة المهد ، وفي أوقات انصراف أولاد المدارس نعود إلى البيت ،كانت دارنا تتألف من غرفة صغيرة مبنية من الحجر الخشن ، تتصل بها حاكورة فيها شجرتا رمان وشجرة لوز أو شجرتان ، وتينة كبيرة ، وعلى مقربة منها الخشية» المبنية أيضاً من حجر خشن ، وأمامها حوش مبلط بالحجارة ، ويتصل بحاكورة أخرى محاطة بأشجار الرمان . وبين مأوانا والخشية ، التي هي مأوى الخراف والدجاج ، ممشى يفصل أيضاً بين الحاكورتين ، ويمتد من بوابة عتيقة اختلط فيها الصفيح الصدئ بالخشب المتأكل ، وكانت غرفتنا وخشيتنا كلتاهما مسقوفتين بالأحطاب ، من الداخل ، ظاهرة التفاصيل في السقف المنخفض ، وهي تتداخل تداخلاً كثيفاً ، إذ تمتد من حائط إلى حائط ، وكان من مهام أبي وبقية أفراد العائلة بين الحين والحين ، ولا سيما قبل مقدم الشتاء ، وكثيراً ما كنت أستلقي على ظهري ، أو على الحصيرة ، وأرقب مصارعة الجرذان المعشعشة بين أحطاب السقف . وأكثر من مرة ، صرع جرذ جرداً آخر وأوقعه إلى الأرض ، فالتقطته قطتنا «فلة ببراعة ، وحملته بين شدقيها إلى الحاكورة لتأتي عليه بطريقتها القططية . كانت «فلة» على رقتها الظاهرة ، ورقة اسمها ، تتكشف عن شراسة النمرة حين تجابه بالفريسة . وكثيراً ما رأيتها تجابه الفئران ، وتجمدها رعباً ، ثم تقضي عليها . ولكنها ذات يوم ، حين أقعت بوجه جرذ كبير بحجمها تقريباً ، كادت تنهزم في المعركة ، إذ راح يرفع قدمه الأمامية كالمخلب ليطعن بوزها ، غير أنها استطاعت أخيراً أن تدفعه الى الفرار والاختفاء عن العين - عن عينها على الأقل . أما من ناحية بوابة المدخل ، أو شارع النجمة كما سمي فيما بعد . من الشارع كنا نصعد الدرجات الحجرية اللامنتظمة ، التي صقلتها الأقدام مع مرور الزمن ، لكي نبلغ زقاق دارنا . ولكن المدرج - ولم يكن عريضاً جداً - كان يبدأ بعمارة فخمة على اليمين ، مبنية من حجارة مدقوقة منتظمة ، لها بوابة حديد صبغت ذات يوم غابر بطلاء أبيض . وعلى اليسار جدار عال ، عند قاعدته معلف يربط عنده حمار أبيض ، كلما وقف عبر المدرج ورأسه في المعلف ومؤخرته متجهة نحو الدار الضخمة ، احتل أكثر من نصف المعبر . كان هذا حمار الحكيم الرومي» ، المقيم في تلك الدار . إنه أشهر طبيب في البلدة والكل يطلقون عليه التسمية الوحيدة التي يحترمونها : «الحكيم الرومي» فكنا نراه وهو راكب حماره - المتميز طبقيا عن الحمير الكثيرة في البلدة بلونه الارستقراطي الأبيض ، بينما كانت الحمير الأخرى أقرب إلى الرمادي المسكين في لونها - وحقيبته في خرج الحمار الأحمر ، وهو ينهره بشموخ وأنفه بخيزرانة قصيرة ، في طريقة إلى دار هذا المريض أو ذاك لم تقسم بيني وبين هذا الطبيب أو حماره أية مودة . فمن أوائل تجاربي في هذا الحي ، تجربة سجلها لي حماره المحترم وأنا في الخامسة من عمري . وقد فرغ من علفه فيما يبدو ، وروثه وتبنه يملأن الدرجتين أو الثلاث التي في المستهل . تجنبت الروث ما استطعت ، وهو يكش بذيله عنها الذباب والقراد . ولا أظنني ، حين عبرت ، تريثت طويلاً للنظر إلى ذيله وحشراته ، ولكنني ربما مددت يدي الى الذيل لأكف حركته عني ريثما امر . وضربني زوجاً بتسديد هائل ، أصابني في كتفي وصدري إصابة جعلتني أصرخ عالياً ، ونفذت إلى الدرجات العليا وأنا مرتعب أبكي . وكان ذلك درساً أليماً ، علمني ألا أقترب من الحمير أو أن أعمل الحذر الشديد إذا اضطررت إلى الاقتراب منها ومن أضرابها . وهي تتلوى وتئن ، وطلبت إلي جدتي أن أنزل الدرج إلى دار الحكيم الرومي قبل أن يخرج في دورته التطبيبية في طرقات البلدة ، وأطلب إليه الحضور إلى دارنا لمعالجة أمي . ولو لم أدرك أن الأمر خطير على نحو ما ، لما جازفت بدخول العمارة التي يقيم فيها الحكيم ، وحماره مربوط بالمعلف على بعد خطوة أو خطوتين من الباب . واقتحمت طريقي إلى الداخل . وإذا هو في الرواق يتهيأ للخروج . وقبل أن أقول له - كما علمتني جدتي – «صباح الخير » سألني يتهيأ للخروج . يا ولد» قلت متلعثماً : «أمي مريضة يا حكيم ومن هي أمك؟» - أمي؟ أمي ، ، أم يوسف ، - أتريدني أن أزورها؟ أين تسكنون» لا أذكر كلماته بالضبط ، بسبب لهجته الرومية ، ولكن لا بد أنني أفهمته ما أريده ، ثم إلى الدار . بأن أنزلت مخدة من المعزل ، ووضعتها على الحصيرة ، لكي يجلس عليها . وطمأنها ، ثم كتب الروشتة» وأعطاها جدتي ، ونهض ، وطلب خمسة قروش أجراً لعيادته . تأفف الطبيب ، أو ثلاثة . غير أن أمي دست يدها تحت وسادته ، وأخرجت «شلنا» ناولته إياه ، تفضل . شكراً» أخذ الحكيم الشلن والقمه الجيب الصغير في الصدرية التي يرتديها تحت سترته ، وأخرج ساعة صفراء فتحها ليعرف الوقت ، ثم أطبق غطاءها البراق بنقرة حلوة ، يلا يا حبيبي ، وقد خاطت لي أمي كيساً أحمله حول عنقي أضع فيه لوازمي المدرسية ، ودفتر «خط» . حيث كانت
المدرسة : وهي أيضاً غرفة واحدة كبيرة بنيت قرب كنيسة حديثة التشييد ملأى بالمقاعد الطويلة دخلت المدرسة ، فأوقفني المعلم صموئيل ، وقال بالفصحى «لماذا تأخرت يا فتی قلت : «أخذت الحكيم الرومي لأمي . فقال : ولماذا؟ أهي عليلة؟ قلت : «بطنها توجعها ، كأنني رويت لهم نكتة ، وقال المعلم ، متمتعاً بألفاظه : «قل إنها مريضة حسناً ، اجلس مكانك كنا أنا ورفقتي ، ولا نفهم الكثير منها ، علمنا الألف باء في أسبوع أو اثنين ، وجعل يسرع بنا عبر صفحاته ، باعتبارها مما لا يستحق التريث عنده طويلاً . كان أخي يوسف يكبرني بأربع سنوات ، مع أصدقائه ، أنه ينتمي إلى عالم غير عالمي - عالم الكبار لا يقول كلمة إلا وأفتح أذني لسماعها ، فأشعر أنه يدخلني الى عالمه . وقد لا يعود حتى المساء . وكان له ، فضلاً عن كتبه العربية ، وكثيراً ما أجلس بجانبه ، فيطلعني على الصور ، ويتباهى بمقدرته على قراءة ما تحتها من كلمات إنكليزية لم يكن قد جاء دوري لتعلمها وجاءني ذات مساء بصندوق من الورق المقوى ، وتفرج كان في الوسط فتحة مستديرة جعل فيها عدسة مكبرة كنا نسميها بنورة» أعلى واحداً من محورين جانبيين فيه ، بينهما يتحرك شريط ورقي لصقت عليه صور من كل نوع ، وتتسلسل الصور في الداخل بدوران المحور ، أمام العدسة ، وقد تكبرت ، وتشوّهت ، واكتسبت فتنة غريبة . سحرني صندوقه وتمنيت لو يبقيه في البيت تحت يدي ، ويسمح لي بأخذه إلى أصدقائي للتفرج عليه . غير أنه أخفاه عني ، وعجزت عن العثور عليه . كان صندوقاً خشبياً ضخماً ، الفرجة بتعريفة يا ولدا تعال تفرج يا سلام . وتحرقنا أنا وعبده للفرجة ، ولكن من أين لنا «التعريفة» العزيزة؟ وقفنا قرب الصندوق نتفرج على شكله وزينته ، إلى أن جاء رجلان أو ثلاثة ، أجلسهم صاحب العجائب على صناديق أمام الفتحات الزجاجية ، والصقوا عيونهم بالعدسات ، وراح هو يدير المحور من الأعلى ، ويتغنى ، بكلام مسجوع ، بعنتر وعبلة ، والزير سالم ، أبي زيد ، وكوكب الشرق ، ومنيرة المهدية ، ونحن نصغي إليه ، نتأمل في الصندوق الحاوي كل هذه البدائع. كانت مزية «الخشاشي» (كما كنا نسمي بيتنا ذاك وجود الحاكورتين اللتين تحويان عدة أشجار رمان ، ودالية تحاول عبثاً الانتشار فوق المدخل المؤدي إلى الدار . فيهما دهشت حين رأيت أمي ، وبعد يومين أو ثلاثة تعود إلينا ومعها طفل صغير في قماط . ولما سألتها : من أين جئت به؟» قالت مستضحكة :
يا حبيبي وكان الطفل أخي عيسى الذي يصغرني بست سنوات ، والذي بقيت مدة طويلة أتصور أنه هبة من المستشفى وفي الحاكورتين غنيت أولى الأغنيات ، إضافة إلى
المعلم جريس وفيهما بدأت أعي الفوارق بين طبائع الناس وتصرفاتهم ، وفي الحاكورتين جمعت لأول مرة عدداً من رفقتي ، وكرّرنا تمثيل المسرحيات ، وهي تنتهي دائماً إلى عراك كنت أصر على المضي فيه إلى أن يعترف الآخرون بأنني أنا الغالب . ففي إحدى النهايات العراكية» تألب علي عدد من الصبية ، وبينهم أخوان مشهوران بالعض . إلى شجار حقيقي ، وفي الوقت نفسه غرز الآخر أسنانه في صدري ، وكاد يقتلع حلمتي ولم يتركاني إلا عندما رأيا الدم يملأ وجهي ويسيل
وفي بيتنا ذاك ، ورعبها ، يوم أفقت على برد شديد ، إذ غادر أبي الفراش ، وكنت أنشد الدفء على صدره فلا أنام إلا قربه . عن الباب . وذلك أن أبي أراد فتح الباب ليرى الوضع خارج الدار ، فاندفع الثلج أكواماً مع انفتاح الباب إلى الداخل ، ولكن أين نقذف به ، والثلج في كل مكان إلى
ما هو أعلى من الركبة؟ يبدو أن أبي كان يتوقع هجوم الثلج هذا ، راح يدفع بها التراكمات عن الباب ، وأبي في أثناء ذلك يردد ، أردنا الخوض في الثلج مع أبي ، وتسلّق إلى سطح الدار ، وجعل يزيح عنه ركام الثلج ، بدفعه الى الحاكورة الجانبية ، ولم يعد
إلينا إلا بعد أن أخلى السطح ، وأزال عنه خطر الانهيار . بحيث لا
يستغرقنا الذهاب إليه إلا بضع دقائق . تسلّقنا جداراً خلف الدار ، مهده أبي على شكل مدرج ليسهل صعودنا عليه . ومنه نسلك طريقاً بمحاذاة حواكير عليا ، لأنه لا يبادرنا إلا بالسؤال عن اتجاهنا ، وهل دخلنا أرضه ، وهل سرقنا البيضات الأخيرة التي وضعتها دجاجاته ، وهل هربنا أرنباً من أرانبه؟ وما كنا لنجرؤ على شيء من ذلك ، لأنّ له كلباً ضخماً أسود ، يربطه في كوخه في معظم
الأحيان لشراسته ، رغماً عن كلبه الغليظ . ثم يصيد قطة أخرى ، ثم يأخذ بخبط الكيس على صخرة بعتو عجيب ، إلى أن تموت ، أم يحملها إلى المزبلة القريبة ، وقال البعض إنه يخرج
أمعاءها ، ويجففها ، وقد عرف الناس ذلك عنه ، رأيت عندكم هراً كثير الحركة» . قلنا : «لا ، وهي تنهض وتنام معنا في داخل الدار ، لتفترس صوصاً أو أرنباً
قلنا : «أبداً يا عم بطرس . إنها شبعانة ، قال : «جئتكم لأخلصكم منها» . قلنا : «بارك الله في همتك . فصاح بشيء من الغضب : والله يا ناس لا تستحقون الخدمة !» وتأبط كيسه
ونبوته بنفرة ، وعاد إلى بيته . بعد دار بطرس الكندرجي ، كنا نمر بدار قديمة تتألف من بيتين صغيرين بنيا على حافة الحاكورة المشرفة على الطريق ، وهو على العكس تماماً من جاره : رجل ضرير ، يجلس متربعاً على صخرة قـرب الباب ، وكثيراً ما يحتضن عوداً يعزف
وكان أولاده مثلنا يترددون على ملعب الدير ، وهم أيضاً أعضاء في فرقة
الكشافة وفرقة الموسيقى ، وأصغرهم ، زميل لي في فصيل الأشبال
يؤلفون تختاً معاً : أحدهم نجار يعزف على الكمان ، يستصحبني إلى بعض تلك الأعراس.غير أن الأعراس كانت مناسبات مهمة لسماع المغنين الجيدين وهم يتغنون بأغانيهم بمصاحبة العود والكمان ، والدربكة والدف ، لأن الأيام قد تمرّ ولا تسمع فيها أغنية جيدة إلا من دكاكين ورش الصدف ، حيث يعمل الصدافون الماهرون جالسين على الأرض ، ويغنون أغاني جماعية على إيقاع مناشيرهم ، وكلما مررت في طريقي إلى ملعب الدير بالعم حنا ذيبان الضرير ، كنت أتخيله يعزف على عوده ، وبعزفه وغنائه يملأ
الطريق فرحاً حتى بلوغي بوابة الدير . وآباء رفقتي جميعهم . واستبشروا بعودته خيراً لأكثر من سبب : فهو معلم أولادهم المشهود له بمعرفة العربية والسريانية والإنكليزية ، وهو شماس كنيستهم المتميز بصوته الرخيم ، حتى أنه ليحول القداس صباح كل أحد إلى جنة صغيرة من عذوبة
التي تعلو الخرابة» ، إلى مدرسة . غير أنها الآن مهدمة ، والغرف الأرضية منها اختنقت أبوابها
ونوافذها بركام الحجارة الساقطة وإذا ما أزيحت الحجارة ، تفوح منها وكأنها روائح الأزمان الغابرة . قبل دخول المدرسة ، المتحدي بعد قليل مرتعباً وهو يقسم أنه رأى مارداً عملاقاً أبيض الشكل ، لولا أنه استطاع الهرب من بين يديه . لاستئناف لعبة «الشبيرة» أو «سنبلة السنبيلة» مع الآخرين ، بينما يكون العديد من آبائنا ، منهمكين برفع
الردم على ظهورهم وبناء الكنيسة الجديدة . ويجيب الآخر ، مؤكداً على إيقاع الكلمات :
يا عونيا! وين الجمل؟
وشو بيشربي؟
قطر الندى
ودائماً أتخيل «عونيا» بدوية سمراء سوداء العينين.أعطاني شقفة كعكة والكعكة جوا الصندوق والصندوق مالو مفتاح والمفتاح عند الحداد والحداد بدو بيضة والبيضة عند الحاجة
إذا كان لدى كل منا واحدة . وشكلها إجاصي يستدق إلى رأس مسمار براق : أدير حولها الخيط الغليظ ابتداء من طرفها الدقيقة وصعوداً نحو جسمها العريض المزين بدوائر ملونة ، وهكذا يفعل رفيقي بفرانته ، اثنين ، ثلاثة!» ويقذف كلانا بحنكته الخاصة بالفرانة على أرض مبلطة ، وتتقافز ، وتحافظ على توازنها . أما «البلبل» ، لأن كلاً منا ، وله شكل أشبه بحرف T ، يروح يسوطه بهذا الخيط على ساقه بحيث يلتف عليها وينسحب بسرعة ، فيزيد من دورانه وتراقصه ، وعلا غناؤه . غير أن لعبة الـ «طقة وإجري تحتاج الى مكان فسيح أرضه غير مستوية . وبالعصا يضربها أحدنا على ذلك الطرف «طقة» واحدة ، يضربها بقوة بالعصا مرة أخرى ، وإذا أخفق في أية «طقة» ، ونتجه بعد شتاتنا المنتشر ، وعدد من العصي المتباينة الطول والمتانة ، وعلى اليمين واليسار منه نافذتان طويلتان ، الغربية منها تطل على الخرابة ، وترى منها جرسية دير أبونا أنطون العالية وساعتها الدقاقة ، والشرقية ترى منها عن بعد قباب كنيسة المهد ، التي وراءها . ويجلس الصبية على مقاعد مدرسية طويلة رتبت في صفين ، بينهما الممشى
كانت هناك خمسة أو ستة بنوك ، متلاصقين ، إذا اقتضت الحاجة . والكبار منهم يحتلون «البنوك» الأمامية ، وأقربها إلى المعلم ، وفيه أخي يوسف وعدد ممن الأولاد يكبرونه سناً . ويليه الثاني ، حتى العاشرة ، هؤلاء كان المعلم جريس يعهد للأولاد «الكبار» بتلقينهم الأبجدية والصفحات الأولى من القراءة . وجاء وقت كلفني فيه أنا أيضاً بتعليم مجموعة منهم القراءة – كنت عندها في صفاً صفاً يتعامل المعلم مع تلاميذه : يُنزل الصف الواحد ليكون أفراده نصف دائرة على جانب من منضدته جاعلاً «أشطرهم» أقربهم إليه ، وإذا غضب على كسل واحد منهم ، أو قد يرسله إلى نهاية الخط ليكون الطش» ويضحك عليه الجميع ، هذا إذا لم يطعمه» أيضاً ضربتين أو أكثر على راحة يده بإحدى العصي التي على منضدته . «رفعه» درجة أو اثنتين ، بمقدار
رضاه . وقد احتفظ أخي بمكانه في رأس الخط من صفه طيلة المدة التي قضاها في تلك المدرسة ، ورزقه ، قد يفاجئ الواحد منهم المدرسة بالزيارة ، أمام الضيف ، «الدجاج المحشي» جزءاً منه - أيام كان لحم الدجاج أثمن اللحوم - وإلا «زعل»
المعلم ، أما أبي فلم يخطر له يوماً أن يحل ضيفاً على المدرسة . لأنه لا يدعي الوجاهة ، وبخاصة بين النسوة ، حين
جابهته به أمي بصراحتها المشهورة - وقالت لها : سنقدم له ما فيه النصيب ، جاء أم لم يجئ ، كما أقلق أخي ، عندما سمعناه ، طلبت إلينا أن نمسك
بالدجاجة الحمراء من دجاجاتنا ، لذبحها . والباقي عليها وفي المساء ، وقد عاد أبي من العمل ، جاء المعلم . فقد سررنا حين وجدناه منطلق الكلام ، كثير المرح ، وبعد
أن جلسنا جميعاً على الحصيرة ، وجلس هو على وسادة ، أنزلتهما أمي له من المعزل ، قال
لأبي : ابنك هذا ، وابنك ذاك ، أضعهما كليهما في الحبة من قلبي . سيصبح كلاهما معلماً تفاخر به بيت لحم كلها .في اليوم التالي كان المعلم في المدرسة في أبهج حالاته . ولكن أحد الطلاب الكبار - وكان لطوله أقرب شكلاً إلى الرجال - واسمه جليل ، حين أمره المعلم بإعادة قراءة إحدى الجمل من كتاب القراءة العربية ، بل أمره بأن يترك مكانه وينزل الى رأس أحد المقاعد «السفلى» ، فامتثل الولد لذلك ، وهدده بأنه إذا لم يكف عن إضافة الشيطنة إلى كسله ، سيعاقبه بأربع عصي . وانصاع جليل مؤقتاً للتهديد . جعلت المعلم يصيح به :
جليل! تعال ، وخذ قصاصك!
غير أن جليل لم يتحرك من مكانه . وخذ قصاصك!»
المدرسة كلهم . عندما نهض المعلم ، وسار باتجاهه ، واندفع نحو المعلم لكي يمسك به ، وثارت لذلك حفيظة المعلم ، ولحق به ، وانطلق الولد من زقاقه باتجاه المنضدة ، والمعلم وراءه ، ثمن دخل بسرعة الفسحة الضيقة بين الجدار الآخر والمقاعد ، والمعلم يكاد يمسك به ولا يمسك ، وقد علا ضحك الصبية وصخبهم ، فيكرر المعلم بصوت رخيم مقولته التي يفرح الأب
لسماعها : «العصا لمن عصى . والعصاة بين الصبية كانوا حقاً كثيرين . أو الانسراح بين الناس في سوق البلدية القريب . ومن يستحق الضرب والإهمال . وكان هناك من اشتهر بأنه لا يخاف العقاب ، لكسله وشيطنته معاً ، «يأكلها» عند منضدة المعلم ، وحالما يدير ظهره عائداً إلى مكانه من المقعد ، يضحك للأولاد متباهياً ، ويلعب عينيه وحاجبيه ، دلالة على عدم شعوره بالألم ، لأن المعروف عنه أنه يتصيد الحراذين ، كنا نقول ، يكثف جلد راحة اليد ويقويها ، في تصيد الحراذين ، رغم كثرتها . ففي ساعات الظهيرة ، عندما تغمر الشمس سلاسل الحواكير ، ويهز رأسه عالياً سافلاً ، ويخيل إلينا أنه يستجيب
لكلماتنا بحركات رأسه.في معظمها أناشيد وتراتيل تعود إلى أزمان سحيقة في القدم ، لحنها آباء الكنيسة الأوائل في أنطاكيا ودمشق والقدس والرها ومدن وادي الرافدين ، وفق مقامات كان الشمامسة يتقنونها . يساعده في ذلك أحياناً رهبان شباب من دير مار مرقس بالقدس ، التنويعات السبعة لكل لحن ينوع بها ، وكان علينا أن نحفظ ذلك كله سماعاً ، بدون التدوين الموسيقي الذي عرفته ألحان الكنائس فيما بعد . وعلى كل منهما مخطوطة ضخمة ، لا يتذكر أحد متى خُطت لقدمها . كانت هذه الكتب السريانية القديمة كنزاً تحتفظ به الكنيسة بعناية خاصة واعتزاز كبير . لثقلها وحجمها . وخطوطها بالحبر الأسود بالنسبة للمتن


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

Schistosoma hae...

Schistosoma haematobium causes urinary schistosomiasis. Urinary schistosomiasis can range from asy...

إنّ المتأمل في ...

إنّ المتأمل في هذه القصيدة يجد أنّ الشاعر يفتتحها ببيت مقفّى ومصرّع، وهذا التصريع ألهب الجوّ الحماسي...

وقلة الانصاف تب...

وقلة الانصاف تبعد مابين الاقارب او الاصدقاء وكم من تجاف نشأ بين اخوين او صديقين وإنما نشأ من جحود اح...

وقلة الإنصاف تب...

وقلة الإنصاف تبعد ما بين الأقارب أو الأصدقاء، وكم من تجاف نشأ بين أخوين أو صديقين، وإنما نشأ من جحود...

وقلة الانصاف تب...

وقلة الانصاف تبعد مابين الاقارب او الاصدقاء وكم من تجاف نشأ بين اخوين او صديقين وانما نشأ من جحود اح...

الذكاء الاصطناع...

الذكاء الاصطناعي: يشير الذكاء الاصطناعي إلى تطوير الأنظمة أو الآلات التي يمكنها أداء المهام التي تتط...

Phobia is a fee...

Phobia is a feeling of fear towards something that may be normal to other people.There are many type...

تعتبر الفترة ال...

تعتبر الفترة المأخوذة لحساب التدفقات المستقبلية المحصل عليها من العناصر الهامة في حساب قيمة المؤسسة ...

مع التطور التكن...

مع التطور التكنولوجي السريع وتزايد استخدام الإنترنت بشكل واسع، أصبحت منصات التجارة الإلكترونية أداة ...

ملاحظة: ويمكن أ...

ملاحظة: ويمكن أن توفر مراكز الاشراف والرقابة المهنية بعض التدخلات الأساسية لحماية صحة العمال في مراح...

ويسهم نموذج "بي...

ويسهم نموذج "بيرسون" في فهم سلوك العلاقات العامة، من خلال تحديد طبيعة العلاقة بين المسؤولية الاجتماع...

الشريف الرضى: ه...

الشريف الرضى: هو محمد بن الحسين الموسوى، ولد ببغداد سنة ٣٥٩ للهجرة، وكان أبوه نقيب العلويين وعسى بتخ...