Lakhasly

ولكن كيف يتعلم الإنسان من تاريخ المجتمع
الذي نشأ فيه، أو تاريخ الشعوب الأخرى
المجاورة له أو البعيدة عنه؟ هنا يأتي دور
التاريخ الذي يبدأ بتسجيل الوقائع بمعرفة
المؤرخ ) ، وهو الشخص الذي تكون حرفته
تسجيل ما يقع من أحداث أولا بأول دون
تعليق أو تحليل، لأنها مجرد وقائع خام.
فمثلا يقول انه في يوم كذا من شهر كذا
حدث كذا وكذا ويتوقف. وبعد أيام أخرى
أيا كان عددها يذكر أحداثا أخرى شاهدها
بنفسه أو سمعها. وكان هذا التأريخ) هو
الوسيلة الوحيدة الممكنة والمتاحة للأجيال
التالية للتعرف على أحداث البلد الذي
يعيشون فيه أو تاريخ بلدان أخرى. ثم
حدث أن تم نسخ هذه المذكرات في أكثر من
نسخة يحتفظ بها كل من يقتنيها، وبعد
التوصل إلى فن الطباعة بدأ طبع هذه
المذكرات ونشرها على نطاق واسع فعمت
أين نشأت
سلطة الدولة)
أصبح هناك ما يعرف بالأرشيف الذي
تحفظ فيه مستندات سياسات الدولة فيما
يتعلق بالإجراءات والقرارات والمراسلات..
إلخ، ويصبح هذا (الأرشيف) مع (مذكرات
المؤرخ المصدر الأساسي الذي يعتمد عليه
الباحث الذي يفكر في الكتابة عن فترة
تاريخية معينة.
وعلى أساس تلك المصادر تبدأ مهمة الباحث
في تاريخ فترة معينة من تاريخ بلد من
البلاد. وفي هذا الخصوص ليست مهمة
الباحث أن يعيد سرد وقائع التاريخ كما
وردت بالمصادر، لكن عليه أن يقوم بتفسير
تلك الوقائع والأحداث في ضوء الظروف
الموضوعية التي وقعت فيها، وليس الحكم
على الوقائع بالمدح أو الذم أو التفخيم أو
الانتقاص. فليس له أن يقول في العنوان
ثورة كذا المجيدة، أو فلان البطل، أو فلان
الخائن...الخ)؛ لأن هذا الحكم من العنوان
يعد مصادرة على القارئ في فهمه للأحداث
التي يقرؤها في ضوء الظروف الموضوعية
ومن هنا تجيء مقولة: (إن التاريخ دراسة
موضوعية وليست ذاتية)، والمفروض أن
يترك الكاتب للقارئ الحكم بعد أن ينتهي
من القراءة.
ولمساعدة الباحث في التاريخ على فهم وقائع
التاريخ وتفسيرها توصل الفكر البشري
إلى نظريات لتفسير الوقائع تراوحت بين
المثالية) و(المادية). وتكمن خلاصتها في
البحث عن العلة وراء وقوع الحدث، وليس
مجرد ذكر الحدث أو الواقعة، ومن ثم
تحكيم العقل في النهاية. وقبل أن تتبلور
تلك النظريات في القرن الثامن عشر كان
عبدالرحمن بن خلدون قد وضع كتابه
المقدمة في منتصف القرن الرابع عشر
عام 1377)، حيث ميز بين الظاهر والباطن
في أحداث التاريخ بقوله: ففي ظاهره: لا
يزيد عن أخبار الأيام والدول السوابق من
القرون. وفي باطنه: نظر وتحقيق وتعليل
للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات
الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل
في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها
وخليق. وهذا يعني ببساطة ووضوح أن
فلسفة التاريخ تتجاوز سرد وحشد الأخبار
إلى تعليلها وتفسيرها.
على أن المشكلة التي أصبحت إشكالية في
كتابة التاريخ تكمن في ابتعاد كثير من
الباحثين في التاريخ عن هذا التعليل وعن
هذه الموضوعية، حيث قاموا بتوظيف ما
لديهم من معرفة لخدمة السلطة السياسية
القائمة أو الدينية خشية من العقاب
في الدنيا وفي الآخرة، ومن ثم تم نحت
مصطلح التاريخ (القومي)، أو (التقليدي)،
أو (الرومانسي) لمجتمع من المجتمعات في
الفائدة.
مقررات تدرس في المدارس بعيدا عن حقائق
التفسير العلمي
ومن نماذج هذا الشطط الكتابة عن تاريخ
الأتراك العثمانيين في إطار عاطفي ليس
من جانب الأتراك فقط، بل من جانب بعض
الباحثين العرب، وكل منهم يكتب بعيدا عن
المصادر والظروف الموضوعية التي كانت
قائمة آنذاك، فالدولة العثمانية احتلت بلاد
سوريا ومصر (1516-1517) بعد معارك
دامية انتهكت فيها الحرمات، ويكفي
أن
نذكر أن القتال دار في الأشهر الحرم (شهري
ذي الحجة ومحرم)، وقد ذكر محمد أحمد
بن إياس (أحد أمراء الشراكسة في مصر)
كتابه (بدائع الزهور في وقائع الدهور أن
السلطان سليم قال بعض مجالسه بین
أخصائه وهو بالشأم وقبيل أن يتجه إلى
مصر: (إذا دخلت إلى مصر أحرق بيوتها
قاطبة وألعب في أهلها بالسيف..). وبدخول
العثمانيين مصر أصبحت ولاية عثمانية
تابعة، ومنها انطلقوا يفرضون سيادتهم
على كل بلاد العرب في المشرق والمغرب
ما عدا مراكش المغرب وقلب الجزيرة
العربية (نجد) وجنوب اليمن، وظلوا
كذلك زهاء أربعة قرون حتى نهاية الحرب
العالمية الأولى، ومع ذلك هناك باحثون في
التاريخ يقولون إن العثمانيين مسلمون،
وأنه لا يصح أن نطلق عليهم الغزاة شأنهم
شأن الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي أو
الإيطالي الذي سيطر على أجزاء من العالم
العربي كما هو معروف.
وفي هذا المنعطف يأتي دور بعض و
من الأكاديميين
أصحاب التوجهات الإسلامية ليكتبوا عن
الدولة العثمانية باعتبارها دولة إسلامية
مفترى عليها (كتاب الدكتور عبد العزيز
الشناوي 1980 وهو أستاذ التاريخ الحديث
بجامعة الأزهر)، والدكتور عبد الجليل
التميمي أستاذ التاريخ الحديث في تونس
الذي قام بتأسيس مركز الدراسة العالم
العثماني بدعم من تركيا، ومركز أخر
في القاهرة وغير ذلك. وتعقد المؤتمرات
هنا وهناك من أجل تحسين صورة العصر
العثماني على حساب الوقائع الثابتة، مع
أن المسألة أبسط من ذلك بكثير؛ إذا ما
أبعدنا التاريخ عن السياسة ونظرنا إليه في
إطار ظروفه الموضوعية أو سياق الزمن.
فهل يجوز أن نسمي مجيء العثمانيين
إلى ديار العرب بالفتح ولا نسميه بالغزو
والاحتلال، لا لشيء سوى أنهم مسلمون؟!
وإذا كان (الفتح) مصطلحا له دلالة
على نشر الإسلام، فهل كان أهل مصر
والشام وغيرهم من ديار العرب وثنيون لا
يعبدون الله ولا يؤمنون برسله حتي يجيء
العثمانيون لهم بالهداية. وإذا كنا نستكبر
أن نصف العثمانيين بالغزاة لأنهم مسلمون
وأن وحدة العقيدة تمنعنا من وصفهم
بالغزاة، فلماذا لا نقول بالفتح العراقي
للكويت (1990) وليس الغزو، طالما أن العراق
بلد مسلم، وأن الكويت بلد مسلم. لماذا تختل
المعايير العلمية لحساب السياسة؟
أما الاستشهاد بأقوال بعض الدارسين
الأمريكيين أو الأوروبيين في تعظيم العصر
العثماني، والقول بأنه شهد تطورات
عظيمة، وأن مصر كانت على أبواب مرحلة
متقدمة من التطور في طريق الرأسمالية
لولا الغزو الفرنسي في 1798؛ فهذا الأمر
لو تعلمون جاء من باب الاستشراق الذي
يخدم دوائر استعمارية قديمة ومتجددة،
يسعى أصحابه للتعظيم من شأن الحكم
الإسلامي في مواجهة القومية العربية
بين البلاد العربية من ناحية، وفي مواجهة
انتشار الشيوعية في البلاد الإسلامية من
ناحية أخرى .