Lakhasly

Online English Summarizer tool, free and accurate!

Summarize result (50%)

المبحث الأول: العنف اللغوي في المستويين النحويّ والصرفيّ استيقظ الإنسانُ منذ البدء على صوت العنف، حتى أضحى العنف أبرز الظواهر الاجتماعيّة لمّا كان الإنسيّ لا يتحقق وجوده إلا بالاجتماع، وهنا مركز التناول، فهل وصل الأمر إلى أن تتلطخ اللغة بالعنف بفعل أصحابها؟ أم أن اللغة في أصل تكوينها سلطة رمزية تمارس سطوتها على مستعمليها؟ بوصفه ظاهرة تأخذ مداها المُنثال في مختلف مجالات الوجود الاجتماعيّ، المادي أو الفيزيائيّ، - وستنال هذه الفكرة وضوحها في مرحلة لاحقة – من البحث. ولا تنحصر في الكلام والتواصل، وإنما تنطوي على مخاض تاريخيّ وثقافيّ، فتحتفظ بتصورات وتجارب اجتماعيّة معينة، فاللغة رموز وكلمات يستعملها مجتمع معيّن تعبر عن مفاهيمه، والعقائد السائدة فيه، واتجاهاته الفكريّة، فهل يمكن عد تلك الأحضان مشحونة تترك ندوبها في آثار اللغة، أو أن مستعملي اللغة هم من يُحملون في استعمالهم الكلمات إلى لكمات؟ هي أسئلة مطروحة، ومسألة تحتاج التحقيق فيها. أولأ: العنف في النحو العربيّ: دراسة تحليليّة نقديّة يُعدّ النحو العربي أحد أهم علوم اللغة العربيّة ومفاتيحها، إذ يهدف إلى ضبط الكلام وفهمه وفق قواعد محددة، رغم ذلك فإنّ بعض الظواهر النحوية قد تحمل في طياتها دلالات عنيفة، سواء من حيث المصطلحات المستخدمة أم القواعد المتبعة، وقد أثارت هذه الظواهر جدلًا بين اللغويين والنقاد، إذ رأى بعضهم أنها تعكس ثقافة مجتمعية قائمة على الهيمنة والسيطرة، ورأى آخرون أنها اصطلاحات لغوية لا تحمل أي دلالات أيديولوجية. ولعل التركيب النحوي للغة يعكس تفكير المتكلمين بهذه اللغة( )، ولأن النحاة هم أبناء بيئتهم، فلم يكونوا بمنأى عن مجريات عصرهم والتأثر بها، وتأثيرها في الأنظمة اللّغويّة، فهي انعكاس للبنى الاجتماعيّة والسياسيّة. لكنّها لم تكن بمنأى عن استخدام خطاب يتسم أحيانًا بالعنف اللّغوي، فالنحو نظام بشريّ، ولعل هذا العنف يعكس عادات ثقافيّة يتصف بها المجتمع الصادرة عنه تلك اللغة، يستخدم النحو العربي مجموعة من المصطلحات التي تحمل دلالات عنيفة، إذ ثمة مصطلحات ومسائل في التراث النحوي تستوقف المتأمل، - الإعراب والبناء: يُستخدم مصطلح "الإعراب" للإشارة إلى تغيير حركة آخر الكلمة حسب موقعها الإعرابي، ويُستخدم مصطلح "البناء" للإشارة إلى ثبات حركة آخر الكلمة، الذي يلزم حالة واحدة، لأنه يعطي انطباعًا بأن الكلمة المبنية هي كلمة جامدة تمثل حالة من التحجيم، إذ إن "الإعراب هو الاختلاف، ألا ترى أن البناء ضده؟ وهو عدم الاختلاف اتفاقا، ولا يطلق البناء على الحركات: وإنما جُعِلَ الإعراب في آخر الكلمة " . قد يُنظر إلى هذا على أنه تحكم في التنوع اللغوي، أو محاولة لتوحيد الخطاب من خلال تقليص الإمكانات اللغوية، من جهة أخرى، قد تكون هذه الحالة من الثبات بمثابة “عنف لغوي” موجه نحو من لا يلتزم بهذا النظام أو لا يتحدث بالطريقة الصحيحة أو المقبولة لغويًا. مما قد يشير إلى نوع من التكيف القسري. وكأن المبني يتمتع بحصانة ضد التغيير مقارنة بالمُعرب الذي يخضع للتأثيرات الخارجية. الجمود (البناء) x المرونة (الإعراب)

  • الناسخ والمنسوخ: يُستخدم مصطلح "الناسخ" للإشارة إلى الحكم النحوي الذي يلغي حكمًا آخر، إذ يُبطل ما كان قبله، الذي يوحي بالإقصاء والاستبعاد، قد يُستخدم الناسخ أو (العامل) عند سيبويه، مما قد يفضي إلى تهميش بعض الصيغ أو الأنماط اللغوية لصالح أنماط أخرى، فهناك أفعال وحروف تُبطل عمل غيرها أو تُزيل أثرها، مثل الحروف الناسخة: (إن وأخواتها التي تزيل تأثير المبتدأ). و(كان وأخواتها التي تؤثر على المبتدأ والخبر). هذه العمليات تشبه مفاهيم الهيمنة والإزاحة، - الإعمال والإهمال: وفي الكتاب استعمل لفظة سيبويه لفظ الإلغاء في أبواب متفرقة، وكأنه فاقد للقوة أو عاجز عن التأثير في غيره، الإهمال = عدم العمل، عنصر ضعف، دلالة على التهميش. تضبط تلك المصطلحات التي يمكن أن نذكر بعضًا منها، وذلك في جانبين:
  • ضمير المتكلم وليست المتكلمة، ضمير المخاطب وليست المخاطبة، ضمير الغائب، - مصطلحات نحويّة أخرى هنالك مصطلحات نحويّة متشربة من كأس الألفاظ العنيفة، يمكن ذكر منها: إذ جاء درس (كان وأخواتها) و( إن وأخواتها) وغيرها بجعل المذكر هو الأعم فهو الكل، كذلك تسمية (باب المبهمة وصفاتها) ، لماذا لم يُمارس تغليب التذكير هنا؟
  • الْمُقْحَمَة: وهي" وصف للام المعترضة بين المتضايفين، في مثل: يا بؤس للحرب -والأصل يا بؤس الحرب، وفي مثل قولهم كذلك: لا أبالك، إذ أقحمت اللام بين المضاف والمضاف إليه" ، إذ يتم إدخال عناصر لغوية لا لزوم لها وفقًا لوجهة نظر معيارية. أي أنها تفتقر إلى شيء مقارنة بالأفعال الصحيحة، وهذا يتوافق مع نظرة معيارية للغة تفترض أن الشكل الكامل أو الصحيح هو الأصل، وما عداه يُصنَّف على أنه ناقص أو معتل. إلا أن استخدام مفاهيم النقصان والضعف في اللغة قد يحمل بعدًا معياريًا يعكس رؤية لغوية تمييزية. فهي تشير إلى علاقة نحويّة بين الكلمات، إذ تتبع كلمة أخرى في الإعراب، مثل: النعت، والبدل، والتوكيد، ويتبدى ذلك إذا نظرنا إلى العلاقة بين التابع والمتبوع بوصفها علاقة سلطة أو هيمنة لغوية، إذ يعتمد على المتبوع في الإعراب، مما يعني أنها فاقدة للاستقلالية النحويّة وتخضع لقواعد تحكمها، وهذا الخضوع ليس عنفًا بحد ذاته، وإنما علاقة تنظيمية في الجملة؛ على أنها تمثيل رمزي، تلمح إلى التبعية اللغوية بعدها تجسيدا لهيمنة عنصر على آخر، ولعل النحو العربي تأثر بثقافة القبيلة العربية، التي كانت قائمة على القوة والهيمنة، وانعكس ذلك في استخدام مصطلحات وقواعد نحوية تجسد هذه الثقافة. لأنه يُستخدم مع المضاف إليه وحروف الجر، الرفع
    الجر
    والنصب أقوى من الجر، وقد يسمى الوقف، إذ يعني تقييد الحرف وانقطاعه عن الحركة . - الأسماء أقوى من الأفعال، * ثبات الاسم واستقلاليته لأنه لا يظهر إلا مقترنًا بزمن، * الحروف في أدنى الهرم، لأنها لا تملك معنى بذاتها، ترتسم صورة النحو على هيئة صورة مصغّرة للطبقية الاجتماعية، إذ هناك طبقات لغوية عليا (الأسماء)، وطبقات أدنى (الأفعال)، فالنحو ليس نظامًا أفقيًا متساويًا، بل هو نظام تراتبي طبقي، وكأن الكلمات تخوض صراعًا من أجل البقاء. حتى عند الحديث عن مجموعة. إذ تُعطى الأفضلية للقوي على الضعيف، وللفرد على الجماعة. يُعطى العاقل (الإنسان) أولوية على غير العاقل (الحيوان أو الجماد)، تعكس القواعد النحوية التراتبية الاجتماعية السائدة في المجتمع العربي، وللإنسان على الحيوان. يُستخدم المذكر ليشمل الذكر والأنثى، يُعد "الكتاب" لسيبويه أهم المصادر النحوية في التراث العربي، - العنف في المصطلحات النحوية يستخدم سيبويه في "الكتاب" مصطلحات توحي بالقوة والإلزام، مثل:
  • مصطلحات الضبط والقسر والإجبار مثل: " واعلم أنه لا يجوز لك أن تقول. مثال: كما في قوله : "وأما يونس فيقول: أإن تأتني آتيك، إذ يُسمح بشيء ويُمنع آخر. يبدو أن سيبويه كان يُمارس دور ضابط لغوي يضع حدودًا صارمة لما هو جائز وما هو غير جائز. مثال من (الكتاب): " واعلم أن الترخيم لا يكون إلا في النداء، إذ تلتمس من هذه الصيغ (لا يجوز. التي توحي بالحتمية، أمام قانون لغوي يَحرم تجاوزه. مثال آخر: " إذا كان في أول الكلمة حرف لين، قلبت ألفًا؛ يُفرض على المتعلم قاعدة تحول دون حرية النطق، كما أن التسويغ مبني على "الاستخفاف"، - العنف في تقسيم اللغة إلى صحيح وفاسد: * قسم سيبويه اللغة إلى "مقبول" و"مردود"، مما ضيق دائرة الاستخدام اللغوي. رغم أن اللغة ظاهرة متغيرة بطبيعتها، فتجد أن في مواضيع يجيزها سيبويه وإن كانت قليلة، مثال: "وأما ما كثر في كلامهم حتى صار بمنزلة ما يجب أن يكون على ذلك، فلا يقاس عليه، لأنهم شبهوه بما يجب أن يكون عليه وليس مثله" ، يرفض سيبويه القياس على بعض الأساليب الشائعة بحجة أنها ليست أصلية، مما يدل على تشدد في تحديد ما هو "مقبول". - العنف في التعامل مع المخالفين: مثال : " وهو قول الخليل. * رفض بعض التفسيرات اللغوية حتى لو كانت منطقية، لأنها لم ترد في كلام العرب. * توجيه الأحكام النحوية بطريقة توحي بأن رأيه هو الصحيح الوحيد. فهو يرفض أسلوبًا معينًا لأنه لم يُسمع عن العرب، * تمسك باللهجات الفصحى ورفض الاعتراف ببعض التغيرات الطبيعية التي حدثت في اللغة. * جعل بعض الظواهر الصوتية حكراً على لغة قريش فحسب. مثال: "وأما لغة تميم، فإنهم يقولون في الوقف: هذا غلامُ، وهي لغة رديئة" ، إذ وصف لغة تميم بأنها "رديئة"، فتجد سيبويه يستعمل لغة حادة في الحكم على اللغات أو الأساليب اللغوية، بعبارات نحو:
  • "وهذا كلام خبيث يوضع في غير موضعه" . - "وهذا قبيح ، وهو قليل خبيث". كان قبيحا حتى تقول، واعلم أنه قبيح أن تقول. " . - "واعلم أن حروف الجزاء يُقبح أن يتقدَّمَ الأسماء فيها قبل الأفعال" . فكان يُبرز الطبقات الاجتماعية والقوى الثقافية آنذاك، ووفقا لنظرية (فوكو) عن السلطة والمعرفة، إذ نجد أن النحو العربي عند سيبويه ليس أداة وصفية حسب، واستئناسًا بالمفهوم الذي طرحه (بيير بورديو)، يلوح لنا أن النحو كما أسسه سيبويه، لم يتحدد بنظام لضبط اللغة، بطريقة تجعل اللغة أداة ضبط اجتماعي وثقافي يكمن في فرض قواعد نحوية صارمة تميز بين اللهجات، - العنف في تسويغ القواعد النحوية
  • التركيز على التفسير المنطقي أكثر من العملي للاستعمال اللغوي. مثال: هذا التعليل المتداخل يجعل فهم القاعدة أكثر صعوبة على المتعلم. - ويتجلّى الغموض والتعقيد في الكتاب أيضًا، بتعدّد الأفكار والمصطلحات للمفهوم الواحد، إذ يذكر سيبويه أن بعض الظروف، مثل: خلف وأمام لا تستعمل أسماء غير ظروف إلا في قليل من الكلام، والقصد، والناحية، وأما الخلف والأمام والتحت فهن أقل استعمالا في الكلام أنْ تُجْعل أسماء، فحكم بأن استعمالها أسماء غير ظروف أكثر وأجرى في الكلام، مثل: القصد، والنحو، والأمام، والتحت، فتكون أسماء، وكينونة تلك أسماء أكثر وأجرى في كلامهم . وفي مسألة أخرى يستقر التضارب عند سيبويه في أكثر من موضع أن التاء في بنت وأخت للتأنيث، وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنا . وذلك في أول (الكتاب) فى تعليله لوجود ثمانية أنواع من العلامات الإعرابية وهو يُعبّر عن مكان الإعراب ( بالمجرى)، يقول فيه (هذا باب مجارى أواخر الكلم من العربية ) ، يتضح من خلال هذه المظاهر أن كتاب سيبويه، رغم أهميته في ضبط اللغة العربية، يُجلّي نوعًا من العنف اللغوي الذي جعل النحو أكثر تعقيدًا، المصطلحات، وطريقة العرض كانت سببًا في الصعوبة التي واجهها المتعلمون، كما فعل ابن مضاء القرطبي في كتابه (الرد على النحاة . وصفوة القول، بل هو نظام تحكم وتوجيه للكلمات والجمل، فبسطت المصطلحات المستخدمة فيه أشكالًا مختلفة من القوة، والقسر، ولا مشاحة في القول، الذي يشبه فكرة ( رأس المال الثقافيّ) عند (بورديو)، في النظام الذي بناه سيبويه، إذ ليس كل متحدث بالعربيّة يملك السلطة نفسها على اللغة، فتُمنح قيمة أعلى للهجات الذين يمتلكون القدرة على الحديث بلغة السلطة التي حددها بيد من يملكها. وهي ملاحظات واستدراكات، وموضع محوج إلى فضل تأمل إلى أهل النظر، فهي تحتاج إلى رؤى فاحصة، وعمل دؤوب، وتخطيط لغويّ يطبق حلًا لما اعتاص اللغة من عنف رمزي أو ظاهر، لا يتسع الحديث للإفاضة فيها. هذا وإن الدراسة لا تعتني بالمسألة وكُليتها ولا بمعلولاتها المبسوطة على أجواء الدرس النحويّ، إذ وجدنا مظاهر هذا العنف لمستقر بين أركان أبوابها، والدراسة لا تتسع ولا تنال الكشف بجُلّه، أما الجانب الثاني، فينداح إلى رصد تمثلات العنف اللغوي المركوزة في أعطاف الأمثلة النحوية المصنوعة من ملامح متعددة تجتمع قاطبة باستعمال أمثال عنيفة، وإن هذا الجمع، لا ينال تحليلا لغويا، ولو سعينا إلى تعريف جامع للعنف اللغوي ذهبت بنا المحاولة بعيدًا، إذ بادئ الأمر قد يستغرق على الواحد كيف للعنف أن يصحب اللغة وهي مسكن الوجود، استعمالًا مباشرًا أو غير مباشر، وإن كان الأثر الأكبر يقع تحت الكلمات الضمنية التي تحمل بينها تلميحات بالإقصاء أو التمييز، إذ تُستعمل الكلمات أداة للسيطرة والقهر. ويحسن أن نشير في مفهوم عنف اللّغة إلى رأي جان جاك لوسركل(J. Lecercle) ، وإن كان يركز على جانب من اللغة الذي يدعوه بـ (المتبقي) أو المقموع، وهو جزء مستلب و مستبعد من النظام اللغوي، أي ما تنبذه قواعد النحو، وزلات اللسان، والأخطاء النحويّة، وغيره، ويعادل اللاوعي لدى (فرويد)، وهذا الجانب هو الذي يرتع فيه المبدعون والشعراء، والصوفيون، ومع أن هذه الممارسات لا تسير بحسب قواعد النحو، إلا أن (لوسركل) يصل إلى استنتاج أن ذلك الجانب من اللغة الذي يدعوه بـ "المتبقي" ليس ذلك الجانب الغامض الواقع خلف حدود اللغة بل هو ظلها الملازم وجانبها الآخر، بل يعده الجزء الصادق من اللغة، فهو طرف مقهور يعاود الظهور لغويًا في عدة أشكال، ويؤكد (لوسركل) أن المتبقي هو تسلل التناقضات والصراعات الاجتماعيّة التاريخيّة إلى حرم اللغة، وأن ليس هناك ما يمكن تسميته بالاستقرار في نظام اللّغة، ويرى أنّ الإنسان يستمتع بارتكاب هذا الإثم اللغويّ؛ لأنّ هذا العنف الذي يمارسه ضدّ تراكيبها هو الذي يضفي ويضيف إليها الحيويّة، كما يؤكد (لوسيركل)، بل وإن هذا السف اللّغوي –حسب تعبيره- يُغني اللغة ويرفدها ولا ينقض عراها. فهو يرى أن اللغة هي التي تتكلم، إذ هي من تملك زمام السيطرة على متحدِثها ولو بطريقة غير شعوريّة، تفرض عليه قوانين صارمة تحد من حريته، لا اللغة من تتكلم، وذلك بخرق قواعدها وقوانينها القسرية بالعثور على لغة تخمد استبعاده. فيما يلي يمكن ذكر تلك الأشكال التي يتجلّى بها عنف لّغويّ لصيق، التي تظهر من خلال الشكل الآتي: لقد مكّننا النظر من تبين الخصائص التي تختزل ضروب العنف اللّغويّ من أشكال متعددة وإن كنا لن نخوض بجلّها إلا لِماما، إذ إن أنواع العنف اللغوي لم تقف عند حد معين، ويدمر اللغة القوميّة بمنعها على حساب لغة المستعمِر. في غياب اللغة الصمت أو إسكات الصوت، بحرمان فئة معينة من التعبير، يعكس علاقات القوة والهيمنة، مثل: غياب صوت المرأة التي تحرم من فرص ظهورها في مواقف معينة، وسنرى بمزيد من الوضوح ما تستقر عندها الفكرة في مجال وضعها من الدراسة، وسندرك أيضًا، تحيز اللغة أو ليونتها إزاء التأنيث في مواطن متعددة من مبحثي النحو والصرف. - العنف في موضوعات النحو العربي: تتضمن بعض موضوعات النحو العربي عنفًا رمزيًا، مثل: العنف اللّغويّ في مسألة التذكير والتأنيث كان غياب النماذج الأنثويّة في الأمثلة النحويّة واضحًا، فلم نجد مثلًا:(ضربت هند فاطمة)، إذ ركزت الأمثلة المستخدمة على الشخصيات الذكورية، زيد، وعمرو، وكثيرًا ما أغفلت الإناث وسرّحتهن من خطابها النحويّ، و" تبقى المرأة مع كون المعادلة موضوعاً للفعل لا ذاتًا فاعلة لأن الفعل هو للرجولة في جنسويتها" ، وإن هذا التغييب أباح هيمنة النظرة الذكوريّة في التنظير اللّغوي القديم، "فالشهادة في النحو مأخوذة من العرف وعادة أصحاب اللغة، فتبدى مِقود قيادة نظام اللغة بيده. ولم يكن النحويون وحدهم من أزاح المرأة عن بِساط أمثلتهم النحوية، بل وصل ذلك إلى قواعدهم النحوية، وأخذت مسألة التذكير والتأنيث نصيبًا ثاويًا في اللغة العربية تتسرب منها ظلال عنف لغويّ مُتأصل في تلكم المسألة التي نسترفد فيها قضية تغليب التذكير الذي نعده شكلًا من أشكال العنف اللّغوي. و يخطىء من يحصر التأنيث والتذكير في مسائل لغوية مجردة، إذ تحمل أبعادًا تتجاوز التصنيف النحوي، وجوهر الفكر لا يعلن نفسه إلا باللغة، وتشكل مسألة تغليب التذكير على التأنيث إحدى تلك الزوايا التي تعلن عن حق الولاية للتذكير دون التأنيث، فاللغة خاضعة لمقاييس المجتمع وعاداته وثقافاته، كان الإيجاب تحقيقًا للثوابت الحاضرة في عاداتهم ولغتهم، واستبهامات، وتمثيلات شتى، وقد حظي باب التذكير والتأنيث بعناية النحويين، وذلك قول أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري: " إنّ من تمام معرفة النحو والإعراب معرفة المذكر والمؤنّث؛ لأنّ من ذكّر مؤنّثا أو أنث مذكّرا كان العيب لازما له، بل عدت المعرفة بها من باب الفصاحة، وهذا ما ذكّر به السجستاني في قوله: إن أول الفصاحة معرفة التأنيث والتذكير، وإن معرفة التأنيث والتذكير ألزم من معرفة الإعراب، وكلتاهما لازمة، وتعد موضوعة التأنيث والتذكير في العربية وفي اللغات السامية وغيرها من اللغات، فقد" أشكلت ظاهرة المذكر والمؤنث على الباحثين قديماً وحديثاً؛ لأنها لا تخضع إلى منطق، كما أنه يأتيك من الأسماء ما لا يعرف لأي شيء هو. " ، وقد ذكر ابن التستري في فاتحة كتابه (المذكر والمؤنث) قوله:" ليس يجري أمر المذكر والمؤنث على قياس مطّرد ولا لهما باب يحصرهما " ، ولعل الغموض الذي أحاط بهذه المسألة قد يعود إلى التصاق التذكير والتأنيث بالتاريخ اللّغوي، ونشأة اللغة والتطور الذي طرأ على مسيرتها أمر مجهول كما قرره العلماء والباحثون، لأنه لا ينتظم وفق قانون أو قاعدة بل المعول عليه السماع والرواية، لذا تباينت الآراء حوله" ، مما جعل المستشرق (برجشتراسر Gotthelf Bergsträßer) يصرح إن" التأنيث والتذكير من أغمض أبواب النحو، ومسائلهما عديدة مشكلة ولم يوفق المستشرقون إلى حلها حلًا حازمًا" ، وباب الجنس ينفلت قواعده ويصعب حصرها واطرادها، وأغلب الظن أن الاعتياص المتحصل بسبب التأصيل اللغوي، وغياب الإجابات عما يدور في خَلَد واضعي اللغة قديمًا. على الرغم من كثرة ما سطّره السابقون، منوط بتصورات الشعوب لهذه الأشياء، فما اقترب في شكله أو صفته تربطه بالأنثى الطبيعية جعلوه مؤنثاً،


Original text

المبحث الأول: العنف اللغوي في المستويين النحويّ والصرفيّ
استيقظ الإنسانُ منذ البدء على صوت العنف، حتى أضحى العنف أبرز الظواهر الاجتماعيّة لمّا كان الإنسيّ لا يتحقق وجوده إلا بالاجتماع، وهذا الاجتماع مشروط بأداة تواصل، وهي اللغة، وهنا مركز التناول، فهل وصل الأمر إلى أن تتلطخ اللغة بالعنف بفعل أصحابها؟ أم أن اللغة في أصل تكوينها سلطة رمزية تمارس سطوتها على مستعمليها؟


سجل التاريخ العنف الإنسانيّ، بوصفه ظاهرة تأخذ مداها المُنثال في مختلف مجالات الوجود الاجتماعيّ، وتضرب وجودها بإحكام في مختلف التنوعات الجغرافيّة، إلا أن النوع اللّغويّ منه لم يحظَ بالتناول الذي أخذه العنف المستقر بالذهن، المادي أو الفيزيائيّ، ولعل الاعتراف به في مواضع مختلفة احتلّ دائرة الشك أو الإيهام، واستقرت حالة العنف اللغويّ بحالة اللاعنف، - وستنال هذه الفكرة وضوحها في مرحلة لاحقة – من البحث.

إنّ العنف اللّغويّ، هو نتاج لذهنية تعكس ما يختزن فيه من عنف اللّغة، فاللغة هي إرث إنسانيّ اجتماعيّ تتأثر برواسم الثقافة، ولا تنحصر في الكلام والتواصل، وإنما تنطوي على مخاض تاريخيّ وثقافيّ، فتحتفظ بتصورات وتجارب اجتماعيّة معينة، فاللغة رموز وكلمات يستعملها مجتمع معيّن تعبر عن مفاهيمه، ويعد البحث في خصائص العنف اللغويّ ورموز كلماته مدخلًا لفهم الآليات الكامنة وراء التمثيلات الثقافية الكاشفة عن المفاهيم الفكريّة التي تفرزها المجتمعات البشرية بهذا الشأن.
تكونت اللغة في أحضان المجتمع، التي اقتاتت من صميم التقاليد، والأعراف، والعقائد السائدة فيه، واتجاهاته الفكريّة، فهي علاقة تزامل معهودة، فهل يمكن عد تلك الأحضان مشحونة تترك ندوبها في آثار اللغة، أم أن اللغة تفتعل تلك القسوة، أو أن مستعملي اللغة هم من يُحملون في استعمالهم الكلمات إلى لكمات؟ هي أسئلة مطروحة، ومسألة تحتاج التحقيق فيها.
أولأ: العنف في النحو العربيّ: دراسة تحليليّة نقديّة
يُعدّ النحو العربي أحد أهم علوم اللغة العربيّة ومفاتيحها، إذ يهدف إلى ضبط الكلام وفهمه وفق قواعد محددة، رغم ذلك فإنّ بعض الظواهر النحوية قد تحمل في طياتها دلالات عنيفة، سواء من حيث المصطلحات المستخدمة أم القواعد المتبعة، وقد أثارت هذه الظواهر جدلًا بين اللغويين والنقاد، إذ رأى بعضهم أنها تعكس ثقافة مجتمعية قائمة على الهيمنة والسيطرة، ورأى آخرون أنها اصطلاحات لغوية لا تحمل أي دلالات أيديولوجية.
تنطوي أنظمة اللغة وتراكيبها على دوالّ من أعراف المجتمع وممارساته، ولعل التركيب النحوي للغة يعكس تفكير المتكلمين بهذه اللغة( )، ولأن النحاة هم أبناء بيئتهم، فلم يكونوا بمنأى عن مجريات عصرهم والتأثر بها، وتأثيرها في الأنظمة اللّغويّة، فهي انعكاس للبنى الاجتماعيّة والسياسيّة.
لكنّها لم تكن بمنأى عن استخدام خطاب يتسم أحيانًا بالعنف اللّغوي، فالنحو نظام بشريّ، ولعل هذا العنف يعكس عادات ثقافيّة يتصف بها المجتمع الصادرة عنه تلك اللغة، فالسلوك اللّغوي مرهون بالنظام الاجتماعيّ.
أولًا: العنف في مصطلحات النحو العربي:
يستخدم النحو العربي مجموعة من المصطلحات التي تحمل دلالات عنيفة، إذ ثمة مصطلحات ومسائل في التراث النحوي تستوقف المتأمل، منها ما يتعلق بالمصطلحات، ومنها ما يتعلق بالشروط النحوية التي وضعها النحاة في رهانات محددة، وسنشير إلى ومضات على تلك المصطلحات التي تشربت عنفًا في حمولتها دون خوض في شروطهم النحويّة، مثل:




  • الإعراب والبناء: يُستخدم مصطلح "الإعراب" للإشارة إلى تغيير حركة آخر الكلمة حسب موقعها الإعرابي، ويُستخدم مصطلح "البناء" للإشارة إلى ثبات حركة آخر الكلمة، الذي يلزم حالة واحدة، ويُعد هذا الاستخدام عنيفًا، لأنه يعطي انطباعًا بأن الكلمة المبنية هي كلمة جامدة تمثل حالة من التحجيم، حيث تكون بعض الأشكال اللغوية ثابتة لا تتغير.
    إذ إن "الإعراب هو الاختلاف، ألا ترى أن البناء ضده؟ وهو عدم الاختلاف اتفاقا، ولا يطلق البناء على الحركات: وإنما جُعِلَ الإعراب في آخر الكلمة " .
    في بعض الحالات، قد يُنظر إلى هذا على أنه تحكم في التنوع اللغوي، أو محاولة لتوحيد الخطاب من خلال تقليص الإمكانات اللغوية، ومثل هذا التحكم في اللغة قد يُعد عنفًا لغويًا، من جهة أخرى، إذا كانت الكلمات المبنية تمثل السلطة أو المواقع الثابتة في الجملة (مثل الأفعال المساعدة أو الضمائر المبنية التي لا تتغير)، قد تكون هذه الحالة من الثبات بمثابة “عنف لغوي” موجه نحو من لا يلتزم بهذا النظام أو لا يتحدث بالطريقة الصحيحة أو المقبولة لغويًا.
    • الإعراب: يرتبط بتغيير أشكال الكلمات وفقًا للعوامل، مما قد يشير إلى نوع من التكيف القسري.
    • البناء: يحمل دلالة الثبات والاستقرار، وكأن المبني يتمتع بحصانة ضد التغيير مقارنة بالمُعرب الذي يخضع للتأثيرات الخارجية.
    الجمود (البناء) x المرونة (الإعراب)
    = عنفًا لغويًا ملفعًا بالحركة والسكون، بالحرية والقيد.




  • الناسخ والمنسوخ: يُستخدم مصطلح "الناسخ" للإشارة إلى الحكم النحوي الذي يلغي حكمًا آخر، قد يُفهم بمعنى القامع، إذ يُبطل ما كان قبله، ويُستخدم مصطلح "المنسوخ" للإشارة إلى الحكم الملغى، الذي يوحي بالإقصاء والاستبعاد، وبذلك يعد هذا الاستخدام عنيفًا، لأنه يعطي انطباعًا بأن هناك حكمًا قويًا يلغي حكمًا ضعيفًا.
    قد يُستخدم الناسخ أو (العامل) عند سيبويه، للتفوق على إلغاء تأثيرات نحوية أو تغيير الصيغة النحوية لحكم سابق، مما قد يفضي إلى تهميش بعض الصيغ أو الأنماط اللغوية لصالح أنماط أخرى، وقد خصّه النحويون بالجملة الاسمية؛ فالنسخ عند علماء النحو هو نسخ الحكم الإعرابي للمبتدأ والخبر بحسب دخول العوامل الداخلة عليهما، وذلك بإزالة العلامة الإعرابية السابقة والإتيان بعلامة إعرابية جديدة. فهناك أفعال وحروف تُبطل عمل غيرها أو تُزيل أثرها، مثل الحروف الناسخة: (إن وأخواتها التي تزيل تأثير المبتدأ)...، و(كان وأخواتها التي تؤثر على المبتدأ والخبر)...، هذه العمليات تشبه مفاهيم الهيمنة والإزاحة، إذ يُقصى عنصر لغوي ليحل آخر مكانه.




  • الإعمال والإهمال: وفي الكتاب استعمل لفظة سيبويه لفظ الإلغاء في أبواب متفرقة، بل إنه عنون أحد أبوابه هذا (باب الأفعال التي تستعمل وتلغى ) ، فيكون الإعمال للعنصر اللغوي الذي له تأثير في غيره، ويرادُ بالإهمال أن يُترك دون تأثير، وكأنه فاقد للقوة أو عاجز عن التأثير في غيره، فـ"المهمل لا تعمل شيئا" ، مثل إعمال إن المخففة وإهمالها، و إهمال (إنْ) و( متى) الشرطيتين وغيرهما من المسائل.




الإعمال = العمل ، قادر على التأثير في غيره، عنصر قوة، دلالة على السلطة.
الإهمال = عدم العمل، غير قادر على التأثير في غيره، عنصر ضعف، دلالة على التهميش.


إن قراءة على قدر من التمعّن من شأنها أن تظهر عنفًا لغويًا قارًا في المصادر النحويّة دون محاكمة أو مرافعة لغويّة، تضبط تلك المصطلحات التي يمكن أن نذكر بعضًا منها، وذلك في جانبين:



  • مصطلحات متحيزة لغويًا للذكر



  • قولهم الفاعل وليست الفاعلة، والمفعول به وليست بها، والمفعول لأجله وليست لأجلها، ونائب الفاعل وليست الفاعلة.

  • ضمير المتكلم وليست المتكلمة، ضمير المخاطب وليست المخاطبة، ضمير الغائب، وليست الغائبة... إلخ.




  • مصطلحات نحويّة أخرى
    هنالك مصطلحات نحويّة متشربة من كأس الألفاظ العنيفة، يمكن ذكر منها:




  • ( أسلوب التنازع ) الذي يوحي بالصراع والعنف، الذي يمكن استبداله بلفظ أكثر لطفا وحيادية، إذ كانت هذه التسمية متأخرة، اصطلحها النحويون المتأخرون؛ فقد عبّر عنها سيبويه قبل ذلك بـ (باب الفاعلين والمفعولين...)، إلا أن النحويين أرادوا التسمية العنيفة (التنازع).




  • وفي تسمية بعض الأبواب النحوية تحيز واضح، إذ جاء درس (كان وأخواتها) و( إن وأخواتها) وغيرها بجعل المذكر هو الأعم فهو الكل، وجاء ما يدل على الأنثى بالفرعية والجزء، كذلك تسمية (باب المبهمة وصفاتها) ، لماذا لم يُمارس تغليب التذكير هنا؟




  • الْمُقْحَمَة: وهي" وصف للام المعترضة بين المتضايفين، في مثل: يا بؤس للحرب -والأصل يا بؤس الحرب، فأقحمت تقوية للاختصاص، وفي مثل قولهم كذلك: لا أبالك، إذ أقحمت اللام بين المضاف والمضاف إليه" ، يمكن تفسير الإقحام بوصفه فعلًا قسريًا، فهي تأتي بمعنى الإلزام، مما يعكس ذلك بُعدًا سلطويًا في اللغة، إذ يتم إدخال عناصر لغوية لا لزوم لها وفقًا لوجهة نظر معيارية.



    • يعكس ( الناقص) في النحو العربيّ الذي يُستخدم لوصف الفعل المعتل الآخر، حكمًا ضمنيًا بأن هذه الأفعال ناقصة، أي أنها تفتقر إلى شيء مقارنة بالأفعال الصحيحة، وهذا يتوافق مع نظرة معيارية للغة تفترض أن الشكل الكامل أو الصحيح هو الأصل، وما عداه يُصنَّف على أنه ناقص أو معتل. و (المنقوص) أيضًا، وهو الاسم المُعرب الذي آخره ياء لازمة قبلها كسرة مثل: القاضي والمرتجي، وقد سمي هذا الاسم بالمنقوص لعدم ظهور كل الحركات الإعرابية على آخره؛ إذ تقدر فيه الضمة والكسرة لما فيهما من الثقل على الياء ولا تظهر عليها إلا الفتحة لخفتها ، على الرغم من أن هذين المصطلحين يبدوان محايدين من حيث التعريف النحوي، إلا أن استخدام مفاهيم النقصان والضعف في اللغة قد يحمل بعدًا معياريًا يعكس رؤية لغوية تمييزية.




  • وقد توحي ( التوابع) في النحو العربيّ إلى دلالة عنيفة، فهي تشير إلى علاقة نحويّة بين الكلمات، إذ تتبع كلمة أخرى في الإعراب، مثل: النعت، والعطف، والبدل، والتوكيد، ويتبدى ذلك إذا نظرنا إلى العلاقة بين التابع والمتبوع بوصفها علاقة سلطة أو هيمنة لغوية، إذ يعتمد على المتبوع في الإعراب، مما يعني أنها فاقدة للاستقلالية النحويّة وتخضع لقواعد تحكمها، وهذا الخضوع ليس عنفًا بحد ذاته، وإنما علاقة تنظيمية في الجملة؛ على أنها تمثيل رمزي، تلمح إلى التبعية اللغوية بعدها تجسيدا لهيمنة عنصر على آخر، ولعل النحو العربي تأثر بثقافة القبيلة العربية، التي كانت قائمة على القوة والهيمنة، وانعكس ذلك في استخدام مصطلحات وقواعد نحوية تجسد هذه الثقافة.
    كما وتأثر النحو العربي بالتراتبية الاجتماعية السائدة في المجتمع العربي، والتي كانت تقوم على التمييز بين الطبقات الاجتماعية، وتراءى ذلك في استخدام مصطلحات وقواعد نحوية تُظهر هذه التراتبية.
    أمثلة على العنف في التراتبية النحوية:
    راعى النحو عند سيبويه تراتبية صارمة تشبه التراتبية الاجتماعية، فهناك عناصر مسيطرة وأخرى خاضعة.




  • القوة والضعف بين الحركات الإعرابيّة:
    وصف سيبويه الرفع بأنه أقوى، لأن الفاعل يكون مرفوعًا، وكأن الفاعل في اللغة هو السيد، وبقية العناصر تخضع له، أما الجر فهو الأضعف، لأنه يُستخدم مع المضاف إليه وحروف الجر، وكأنه في موقع الخضوع.


                         الرفع   
    النصب
    الجر


    • الرفع أشرف الحركات وأعلاها ، فهو يوحي بالسيادة والعلو، وعمدة الكلام وهو أقوى من النصب، والنصب أقوى من الجر، فهو علم الفضلة .





  • الجر: يحمل معنى السحب والإخضاع، كما في جرّ الأسير أو الشيء الثقيل، وعلاقة الجار والمجرور تعرب عن نوع من التبعية اللغوية، وإن كانت هذه الدلالة بعيدة عن المعنى الحقيق للجر.
    يوحي هذا التصنيف بوجود سلطة لغوية إذ تتحكم بعض الحركات في غيرها، التي تبدو وكأنها حركات حاكمة وأخرى محكومة، فتُعطى الأفضلية في اللغة العربية للرفع على النصب والجر، ويعد هذا العنصر عنيفًا، لأنه يعكس ثقافة قائمة على التراتبية والهيمنة.

    • والساكن أضعف من المتحرك ، وهكذا نرى السكون بمعنى الخلو من الحركة، وقد يسمى الوقف، فهو ضد الحركة، وهو كذلك في معناه الاصطلاحي، إذ يعني تقييد الحرف وانقطاعه عن الحركة .





  • الأسماء أقوى من الأفعال، والأفعال أقوى من الحروف، يظهر ذلك في:



  • ثبات الاسم واستقلاليته

  • الفعل أدنى مرتبة، لأنه لا يظهر إلا مقترنًا بزمن، مما يجعله أقل استقرارًا.

  • الحروف في أدنى الهرم، لأنها لا تملك معنى بذاتها، بل تحتاج إلى غيرها.
    على غرار هذا، ترتسم صورة النحو على هيئة صورة مصغّرة للطبقية الاجتماعية، إذ هناك طبقات لغوية عليا (الأسماء)، وطبقات أدنى (الأفعال)، وأخرى مهمشة (الحروف).
    فالنحو ليس نظامًا أفقيًا متساويًا، بل هو نظام تراتبي طبقي، إذ هناك مستويات لغوية عليا ودنيا، وكأن الكلمات تخوض صراعًا من أجل البقاء.



  • تفضيل المفرد على الجمع: في بعض الحالات النحوية، يُفضل استخدام المفرد على الجمع، حتى عند الحديث عن مجموعة. فيقال: "جاء القوم" بدلاً من "جاءوا القوم". هذه القاعدة تعكس ثقافة تراتبية تُعطي الأفضلية للفرد على الجماعة، إذ تعكس المصطلحات والقواعد النحوية ثقافة قائمة على القوة والهيمنة، إذ تُعطى الأفضلية للقوي على الضعيف، وللمذكر على المؤنث، وللفرد على الجماعة.

  • تفضيل العاقل على غير العاقل: في اللغة العربية، يُعطى العاقل (الإنسان) أولوية على غير العاقل (الحيوان أو الجماد)، تعكس القواعد النحوية التراتبية الاجتماعية السائدة في المجتمع العربي، فتُعطى الأفضلية للعاقل على غير العاقل، وللإنسان على الحيوان.

  • تفضيل المذكر على المؤنث: في اللغة العربية، يُستخدم المذكر ليشمل الذكر والأنثى، في حين لا يُستخدم المؤنث إلا للأنثى حسب، فيقال: "الطلاب متفوقون" حتى لو كان في المجموعة طالبات، وتعكس هذه القاعدة هيمنة الذكر في الثقافة العربية، وهذا ما سنأتي لبيانه في قادم الصفحات.

  • مظاهر العنف في كتاب (الكتاب (لسيبويه
    يُعد "الكتاب" لسيبويه أهم المصادر النحوية في التراث العربي، ويتميز بدقة قواعده وشدة صرامتها، غير أن بعض الباحثين يرون أن أسلوب العرض والمصطلحات وطريقة معالجة القضايا النحوية فيه تحمل نوعًا من العنف العلمي واللغوي، مما جعل النحو العربي يبدو معقدًا وصعب الفهم.
    مظاهر العنف في هذا الكتاب:

  • العنف في المصطلحات النحوية
    يستخدم سيبويه في "الكتاب" مصطلحات توحي بالقوة والإلزام، وكأن النحو نظام قانوني صارم يجب الالتزام به، مثل:

  • مصطلحات الضبط والقسر والإجبار
    يستخدم سيبويه في الكتاب ألفاظًا تحمل معاني الإكراه والقسر، مثل:

  • " ولا يجوز أن تقول..." ، " واعلم أنه لا يجوز لك أن تقول..." ، " وهذا جائز" .
    مثال:
    " ولا يجوز أن تقول: ما زيدًا عبد الله ضاربًا؛ لأنه لا يستقيم" ومن الأحكام التي أطلقت على التركيب لفظ المكروه، كما في قوله : "وأما يونس فيقول: أإن تأتني آتيك، وهذا قبيح يكره في الجزاء" ؛ وكأن اللغة فضاء تحكمه القوانين الصارمة، إذ يُسمح بشيء ويُمنع آخر.
    يبدو أن سيبويه كان يُمارس دور ضابط لغوي يضع حدودًا صارمة لما هو جائز وما هو غير جائز.



  • "اضطر" الذي يوعز إلى أن النحوي يفرض نظامًا قهريًا على المتحدث.
    مثال من (الكتاب): " واعلم أن الترخيم لا يكون إلا في النداء، إلا أن يضطر شاعر" ، ويتأتى ذلك أن النحو عند سيبويه نظام صارم يجب التقيّد به، إذ تلتمس من هذه الصيغ (لا يجوز...) التي توحي بالحتمية، أمام قانون لغوي يَحرم تجاوزه.

    مثال آخر:
    " إذا كان في أول الكلمة حرف لين، ثم سكنت الياء أو الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا؛ لأن ذلك أخف عليهم" ، يُفرض على المتعلم قاعدة تحول دون حرية النطق، كما أن التسويغ مبني على "الاستخفاف"، وهو حكم قسري.



  • العنف في تقسيم اللغة إلى صحيح وفاسد:
    * قسم سيبويه اللغة إلى "مقبول" و"مردود"، مما ضيق دائرة الاستخدام اللغوي.



  • رفض بعض الأساليب التي كانت مستخدمة عند بعض القبائل بحجة أنها "ضرورة شعرية".
    *افتراض أن هناك أساليب "صحيحة مطلقة"، رغم أن اللغة ظاهرة متغيرة بطبيعتها، فتجد أن في مواضيع يجيزها سيبويه وإن كانت قليلة، " فجائز وهو قبيح أن تجعل اللفظ كالواحد" .
    الذي من شأنه أن يخلق طبقة ( أساقفة ) من النحويين الذين يتحكمون في شكل اللغة، الذين يملكون زمام تشكيلها.
    مثال:
    "وأما ما كثر في كلامهم حتى صار بمنزلة ما يجب أن يكون على ذلك، فلا يقاس عليه، لأنهم شبهوه بما يجب أن يكون عليه وليس مثله" ، يرفض سيبويه القياس على بعض الأساليب الشائعة بحجة أنها ليست أصلية، مما يدل على تشدد في تحديد ما هو "مقبول".



  • العنف في التعامل مع المخالفين:



  • تبني مذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي بشكل مطلق دون مناقشة تفصيلية للرأي المخالف.
    مثال : " وهو قول الخليل..." .

  • رفض بعض التفسيرات اللغوية حتى لو كانت منطقية، لأنها لم ترد في كلام العرب.

  • توجيه الأحكام النحوية بطريقة توحي بأن رأيه هو الصحيح الوحيد.
    مثال:
    "وزعم الخليل أن هذا لا يجوز، لأن العرب لم تقله" ، فهو يرفض أسلوبًا معينًا لأنه لم يُسمع عن العرب، دون اعتبار لمرونة اللغة أو تطورها.



  • العنف في التعامل مع اللهجات المختلفة
    الذي يمكن أن يُنظر إليه على أنه نوع من العنف اللغوي لأنه يستبعد أو يُهمش اللهجات الأخرى في الجزيرة العربية بعدها أقل فصاحة أو شاذة، إذ:



  • عدّ سيبويه بعض اللهجات العربية أقل قيمة من غيرها.

  • تمسك باللهجات الفصحى ورفض الاعتراف ببعض التغيرات الطبيعية التي حدثت في اللغة.

  • جعل بعض الظواهر الصوتية حكراً على لغة قريش فحسب.
    مثال:
    "وأما لغة تميم، فإنهم يقولون في الوقف: هذا غلامُ، بحذف الحركة، وهي لغة رديئة" ، إذ وصف لغة تميم بأنها "رديئة"، رغم أنها كانت مستخدمة على نطاق واسع.
    فتجد سيبويه يستعمل لغة حادة في الحكم على اللغات أو الأساليب اللغوية، بعبارات نحو:



  • "وهذا كلام خبيث يوضع في غير موضعه" .

  • "وهذا قبيح ، وهو قليل خبيث".

  • " فهو قبيح وهو على قبحه رفع، كان قبيحا حتى تقول، واعلم أنه قبيح أن تقول..." .

  • "واعلم أن حروف الجزاء يُقبح أن يتقدَّمَ الأسماء فيها قبل الأفعال" .
    تأثيثا على ذلك، يمكن القول إن فرض الصواب اللغويّ والتشدد النحوي الذي أظهره سيبويه تجاه اللهجات المختلفة كان نوعًا من العنف الرمزي، فكان يُبرز الطبقات الاجتماعية والقوى الثقافية آنذاك، من خلال تبني نموذج لغوي معين، كان سيبويه ينقل صورة للقوة والهيمنة الثقافية، مما يؤثر في المتحدثين ببقية اللهجات العربية ويجعلهم يشعرون بالتهميش أو الاستبعاد.
    ووفقا لنظرية (فوكو) عن السلطة والمعرفة، يمكن عدّ النحو أداة لفرض نموذج معرفي معين يحدد ما هو صحيح وما هو خطأ لغويًا، إذ نجد أن النحو العربي عند سيبويه ليس أداة وصفية حسب، بل هو ممارسة سلطوية تكرّس السلطة الرمزية، واستئناسًا بالمفهوم الذي طرحه (بيير بورديو)، يلوح لنا أن النحو كما أسسه سيبويه، لم يتحدد بنظام لضبط اللغة، بل كان وسيلة لإنتاج خطاب معياري يُمارس قسرًا على المتحدثين، بطريقة تجعل اللغة أداة ضبط اجتماعي وثقافي يكمن في فرض قواعد نحوية صارمة تميز بين اللهجات، وتكرّس إقصاء لهجات أخرى، ويُعد هذا التفضيل القوي للغة معينة أداة للهيمنة الرمزية، وفرض معايير ثقافية ولغوية.

  • العنف في تسويغ القواعد النحوية



  • يعتمد سيبويه على تعليلات معقدة تجعل القواعد أكثر صعوبة بدلاً من توضيح القاعدة ببساطة.

  • تُفسر بعض القواعد بطريقة مبالغ فيها، وكأنها قوانين رياضية صارمة.

  • التركيز على التفسير المنطقي أكثر من العملي للاستعمال اللغوي.
    مثال:
    "لأنهم جعلوا الإضافة عوضًا من التنوين، والتنوين هو العوض من الإضافة، فلما أضافوا زال التنوين، لأن العوض قد زال" ، هذا التعليل المتداخل يجعل فهم القاعدة أكثر صعوبة على المتعلم.




  • ويتجلّى الغموض والتعقيد في الكتاب أيضًا، بتعدّد الأفكار والمصطلحات للمفهوم الواحد، فلا يكاد يستقر على مصطلح واحد، وكأنما أعطته اللغة زمام أمرها، ومن تلك هذه النماذج: (المفعول المطلق) يسميه الحدث والحدثان ، كما يسميه أيضاً الفعل، ويسميه مصدرًا، (العطف) الذي أطلق عليه الاشتراك، والإشراك ، و(المضارع) الذي ورد بتسميات عدة، منها: ما هو كائن لم ينقطع ، ما لم يمض .
    بل ويظهر اللَّبس والصعوبة في تناقض الأقوال، إذ يذكر سيبويه أن بعض الظروف، مثل: خلف وأمام لا تستعمل أسماء غير ظروف إلا في قليل من الكلام، فقال: واعلم أن الظروف بعضها أشد من بعض في الأسماء، نحو: القبل، والقصد، والناحية، وأما الخلف والأمام والتحت فهن أقل استعمالا في الكلام أنْ تُجْعل أسماء، ولكنه قال بضد هذا بعد صفحات ليست بعيدة عنها، فحكم بأن استعمالها أسماء غير ظروف أكثر وأجرى في الكلام، فقال :واعلم أن هذه الحروف بعضها أشد تمكنًا في أن يكون اسمًا من بعض، مثل: القصد، والنحو، والقبل، والناحية .وأما الخلف، والأمام، والتحت، والدون، فتكون أسماء، وكينونة تلك أسماء أكثر وأجرى في كلامهم .
    وفي مسألة أخرى يستقر التضارب عند سيبويه في أكثر من موضع أن التاء في بنت وأخت للتأنيث، وذهب في باب ما لا ينصرف إلى أنها ليست للتأنيث، وعلل ذلك؛ بأن ما قبلها ساكن، وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنا .
    ويتغلّف الغموض تسميات الأبواب في الكتاب من جهة وطولها من جهة أخرى، وذلك في أول (الكتاب) فى تعليله لوجود ثمانية أنواع من العلامات الإعرابية وهو يُعبّر عن مكان الإعراب ( بالمجرى)، يقول فيه (هذا باب مجارى أواخر الكلم من العربية ) ، ومن تلك العناوين التي تستغلق على الدارس قبل الغور في قراءة الدرس مثل (هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم ثم تبدل مكان ذلك الاسم اسما آخر فيعمل فيه كما عمل فى الأول) والمقصود به باب البدل.


      يتضح من خلال هذه المظاهر أن كتاب سيبويه، رغم أهميته في ضبط اللغة العربية، يُجلّي نوعًا من العنف اللغوي الذي جعل النحو أكثر تعقيدًا، وهذه الصرامة في الأحكام، المصطلحات، وطريقة العرض كانت سببًا في الصعوبة التي واجهها المتعلمون، مما أدى لاحقًا إلى ظهور دعوات لتيسير النحو، كما فعل ابن مضاء القرطبي في كتابه (الرد على النحاة  .(
    وصفوة القول، إنّ النحو العربي لم يكن نظامًا توصيفيًا حسب، بل هو نظام تحكم وتوجيه للكلمات والجمل، فبسطت المصطلحات المستخدمة فيه أشكالًا مختلفة من القوة، والهيمنة، والقسر، والصراع، ويبدو أن اللغة تحمل في طياتها آثارًا من الفكر السلطوي والعلاقات القهرية التي كانت جزءًا من الثقافة التي نشأ فيها هذا النحو.



ولا مشاحة في القول، إن سيبويه لم يكن عالمًا نحويًّا حسب، بل كان أيضًا جزءًا من سلطة لغوية تمارس عنفًا رمزيًا عبر فرض معايير لغوية محددة على المتحدثين باللهجات الأخرى، الذي يشبه فكرة ( رأس المال الثقافيّ) عند (بورديو)، في النظام الذي بناه سيبويه، إذ ليس كل متحدث بالعربيّة يملك السلطة نفسها على اللغة، فتُمنح قيمة أعلى للهجات الذين يمتلكون القدرة على الحديث بلغة السلطة التي حددها بيد من يملكها.


وهي ملاحظات واستدراكات، وموضع محوج إلى فضل تأمل إلى أهل النظر، فهي تحتاج إلى رؤى فاحصة، وعمل دؤوب، وتخطيط لغويّ يطبق حلًا لما اعتاص اللغة من عنف رمزي أو ظاهر، وما جئنا به إن هو إلا تمثلات لمسألة حثيثة، لا يتسع الحديث للإفاضة فيها.
هذا وإن الدراسة لا تعتني بالمسألة وكُليتها ولا بمعلولاتها المبسوطة على أجواء الدرس النحويّ، إذ وجدنا مظاهر هذا العنف لمستقر بين أركان أبوابها، والدراسة لا تتسع ولا تنال الكشف بجُلّه، وإنما اهتدت الدراسة إلى جانبين اثنين: يتخذ الجانب الأول النظر في أجواء قضية التذكير والتأنيث من زوايا تُفصح عن تحيزات واعتبارات لغويّة و ثقافيّة تندرج تحت هذا العنف، وبعد فحص المسألة نحاول اختبار تلك المسألة وفق إطار نظرية النموذج الأصل تطبيقا لقاعدة التغليب.
أما الجانب الثاني، فينداح إلى رصد تمثلات العنف اللغوي المركوزة في أعطاف الأمثلة النحوية المصنوعة من ملامح متعددة تجتمع قاطبة باستعمال أمثال عنيفة، وإن هذا الجمع، لا ينال تحليلا لغويا، وإنما تسعى إلى الاعتراف بوجود هذا العنف أو عدمه.
ولو سعينا إلى تعريف جامع للعنف اللغوي ذهبت بنا المحاولة بعيدًا، إذ بادئ الأمر قد يستغرق على الواحد كيف للعنف أن يصحب اللغة وهي مسكن الوجود، وثانيها الصورة المستقرة عن العنف المادي وأنواعه المتعددة، فيصبح الجمع بين العنف واللغة أمرًا مغايرًا، فيُتعذر القول الواحد حول تعريف المُلغز.
وقد يتردد الإشكال بعد ذلك، إذا ما كانت اللغة في أصل بنيتها عنيفة، أو أن الأمر بيد مستخدم اللغة في إضفاء العنف على اللغة التي يستعملها، حتى تتسربل الحقيقة بالغموض واللبس، فتأتي هذه الدراسة محاولة الكشف عن غطاء هذا الستار.
إلا أنه يمكن أن نحدد تعريفًا نسير به بتمهّل وتريّث للوصول إلى ما سترسو إليه الدراسة من الكشف. فالعنف اللُّغويّ هو ما تتضمنه اللغة من مفردات وتعبيرات قاسية، أو أساليب لغويّة يستعملها الإنسان في مواطن مختلفة لفظًا وكتابة، استعمالًا مباشرًا أو غير مباشر، تحمل إيحاءات مسيئة؛ فهو أحد أشكال العنف الرمزي الذي يُمارس ضمنيًا من خلال رموز ثقافيّة أو عادات اجتماعيّة باستعمال اللغة أداة فاعلة لإلحاق الضرر والأذى النفسيّ الاجتماعيّ في أحايين كثيرة، وإن كان الأثر الأكبر يقع تحت الكلمات الضمنية التي تحمل بينها تلميحات بالإقصاء أو التمييز، إذ تُستعمل الكلمات أداة للسيطرة والقهر.
ويحسن أن نشير في مفهوم عنف اللّغة إلى رأي جان جاك لوسركل(J. Lecercle) ، وإن كان يركز على جانب من اللغة الذي يدعوه بـ (المتبقي) أو المقموع، وهو جزء مستلب و مستبعد من النظام اللغوي، أي ما تنبذه قواعد النحو، مثل: النكات، وزلات اللسان، والأخطاء النحويّة، وغيره، ويعني فضلة اللّغة، ويعادل اللاوعي لدى (فرويد)، الذي يشير إلى الأداءات اللغويّة المتمردة التي تتفلت من الأعراف اللّغويّة التي درّسها وصاغها فردینان دي سوسير(Ferdinand de Saussure) ، وهذا الجانب هو الذي يرتع فيه المبدعون والشعراء، والصوفيون، والمهووسون ومن شابههم، ومع أن هذه الممارسات لا تسير بحسب قواعد النحو، إلا أن (لوسركل) يصل إلى استنتاج أن ذلك الجانب من اللغة الذي يدعوه بـ "المتبقي" ليس ذلك الجانب الغامض الواقع خلف حدود اللغة بل هو ظلها الملازم وجانبها الآخر، بل يعده الجزء الصادق من اللغة، فهو طرف مقهور يعاود الظهور لغويًا في عدة أشكال، ويؤكد (لوسركل) أن المتبقي هو تسلل التناقضات والصراعات الاجتماعيّة التاريخيّة إلى حرم اللغة، وأن ليس هناك ما يمكن تسميته بالاستقرار في نظام اللّغة، وإنما هي علاقة تناقض مستمرة بين المتبقي واللّغة، وهذه اللّغة هي الحياة بكل تناقضاتها وفوضويتها حدّ قوله.
ويرى أنّ الإنسان يستمتع بارتكاب هذا الإثم اللغويّ؛ لأنّ هذا العنف الذي يمارسه ضدّ تراكيبها هو الذي يضفي ويضيف إليها الحيويّة، كما يؤكد (لوسيركل)، بل وإن هذا السف اللّغوي –حسب تعبيره- يُغني اللغة ويرفدها ولا ينقض عراها.
فهو يرى أن اللغة هي التي تتكلم، إذ هي من تملك زمام السيطرة على متحدِثها ولو بطريقة غير شعوريّة، تفرض عليه قوانين صارمة تحد من حريته، لذا يجعل من عمل المتبقي التحليق الذي ينشده الإنسان إلى أن يتكلم هو، لا اللغة من تتكلم، وذلك بخرق قواعدها وقوانينها القسرية بالعثور على لغة تخمد استبعاده.
نرى من جانبنا أن العنف اللّغويّ لا يقتصر في دلالته على ما جاء به (لوسركل) فحسب، وإنما يتربع في أشكال متعددة، يمكن تأطير معايير يرزخ تحتها أطر تفصح عن عنف لّغوي قارّ بين خلجاته، إما بمعانٍ واضحة أو خفية.
فيما يلي يمكن ذكر تلك الأشكال التي يتجلّى بها عنف لّغويّ لصيق، التي تظهر من خلال الشكل الآتي:


لقد مكّننا النظر من تبين الخصائص التي تختزل ضروب العنف اللّغويّ من أشكال متعددة وإن كنا لن نخوض بجلّها إلا لِماما، إذ إن أنواع العنف اللغوي لم تقف عند حد معين، وإنما تعددت ملامح ظهورها، نحو: تغليب الدارجة أو اللهجة، وإقصاء الفصحى؛ ويكمن الاختلاف في درجات الاستعمال للسان، بل وتبدى العنف اللغوي أيضًا، في الاعتماد على لغة بديلة عن اللغة الأم أو ما يمكن تسميته بالاستعمار اللّغويّ، فهو يعمرُ لغته في اللسان، ويدمر اللغة القوميّة بمنعها على حساب لغة المستعمِر.
ويظهر العنف اللّغويّ أيضًا، في غياب اللغة الصمت أو إسكات الصوت، بحرمان فئة معينة من التعبير، يعكس علاقات القوة والهيمنة، تحت ما يمكن وصفه بلغة المهمشين سواء بسبب العرق أم الطبقة الاجتماعيّة أم النوع الاجتماعيّ ضمن تسمية نضعها في بند العنف اللّغوي، نطلق عليها بـ (التهميش اللغوي)، مثل: غياب صوت المرأة التي تحرم من فرص ظهورها في مواقف معينة، وسنرى بمزيد من الوضوح ما تستقر عندها الفكرة في مجال وضعها من الدراسة، وسندرك أيضًا، تحيز اللغة أو ليونتها إزاء التأنيث في مواطن متعددة من مبحثي النحو والصرف.



  • العنف في موضوعات النحو العربي:
    تتضمن بعض موضوعات النحو العربي عنفًا رمزيًا، مثل:
    العنف اللّغويّ في مسألة التذكير والتأنيث
    كان غياب النماذج الأنثويّة في الأمثلة النحويّة واضحًا، فلم نجد مثلًا:(ضربت هند فاطمة)، ووجدنا: (ضرب زيدٌ عمرًا)، إذ ركزت الأمثلة المستخدمة على الشخصيات الذكورية، زيد، وعبدالله، وعمرو، وغيرهم، وكثيرًا ما أغفلت الإناث وسرّحتهن من خطابها النحويّ، و" تبقى المرأة مع كون المعادلة موضوعاً للفعل لا ذاتًا فاعلة لأن الفعل هو للرجولة في جنسويتها" ، وإن هذا التغييب أباح هيمنة النظرة الذكوريّة في التنظير اللّغوي القديم، "فالشهادة في النحو مأخوذة من العرف وعادة أصحاب اللغة، فما تعودوه من أساليب التعبير وما جرت به ألسنتهم، وما ألفوه في كلامهم من طرق معينة في التعبير بالألفاظ" ، انطرح في لغتهم، فتبدى مِقود قيادة نظام اللغة بيده.
    ولم يكن النحويون وحدهم من أزاح المرأة عن بِساط أمثلتهم النحوية، بل وصل ذلك إلى قواعدهم النحوية، وأخذت مسألة التذكير والتأنيث نصيبًا ثاويًا في اللغة العربية تتسرب منها ظلال عنف لغويّ مُتأصل في تلكم المسألة التي نسترفد فيها قضية تغليب التذكير الذي نعده شكلًا من أشكال العنف اللّغوي.
    لفت أقنوما الذكورة والأنوثة نظر الإنسان الأول، وانعكس أثر ذلك على لغته ، و يخطىء من يحصر التأنيث والتذكير في مسائل لغوية مجردة، إذ تحمل أبعادًا تتجاوز التصنيف النحوي، بيد أنها تنطوي على جوانب اجتماعية وثقافية تعكس تصورات المجتمع عن الجنسين، وإذا سألنا هل بمكنة القوامة الاجتماعية للرجل أن تلقي بوطأتها على النحو العربي؟ نركن إلى الإيجاب، ففي رأيي إن الفكر من يوجّه اللغة لا العكس، وجوهر الفكر لا يعلن نفسه إلا باللغة، ونظام اللغة يحمل في داخله تصورات ثقافيّة وقيمًا مجتمعية قد تعزز علاقات الهيمنة والتمييز، وتشكل مسألة تغليب التذكير على التأنيث إحدى تلك الزوايا التي تعلن عن حق الولاية للتذكير دون التأنيث، فاللغة خاضعة لمقاييس المجتمع وعاداته وثقافاته، وهي سبيل متأصل لكشف التراث الثقافي للمجتمعات، ولما كانت "معظم المجتمعات تفضل الذكر على الأنثى" ، كان الإيجاب تحقيقًا للثوابت الحاضرة في عاداتهم ولغتهم، وإن العنف بحسب (لوسركال) هي قوة تمارس في اللغة وباللغة ، وسياسات الإقصاء هي ملمح من ملامح العنف اللغوي.
    هذا وإن مسألة التأنيث والتذكير قامت ولم تقعد ذهابًا وإيابًا محملة بإشكاليات، واستبهامات، وتمثيلات شتى، وتخريجات مستغلقة، حتى أظهرت شأوًا عظيمًا بين اللغويين والنحويين لا تنالها مسألة لغوية أخرى، وقد حظي باب التذكير والتأنيث بعناية النحويين، إذ قرر بعض علماء العربيّة أنه من تمام المعرفة بالنحو، وذلك قول أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري: " إنّ من تمام معرفة النحو والإعراب معرفة المذكر والمؤنّث؛ لأنّ من ذكّر مؤنّثا أو أنث مذكّرا كان العيب لازما له، كلزومه من نصب مرفوعًا أو خفض منصوبًا أو نصب مخفوضًا" ، بل عدت المعرفة بها من باب الفصاحة، وهذا ما ذكّر به السجستاني في قوله: إن أول الفصاحة معرفة التأنيث والتذكير، وإن معرفة التأنيث والتذكير ألزم من معرفة الإعراب، وكلتاهما لازمة، ومن جانب آخر تبدى مبلغ المسألة باحتفاء المكتبة العربية بتراث فسيح فيما صُنف من كتب المذكر والمؤنث.
    وتعد موضوعة التأنيث والتذكير في العربية وفي اللغات السامية وغيرها من اللغات، من أوعر الموضوعات اللّغوية، وقد قرّ أئمة النحو بأنها من أغرب المسائل النحويّة وأكثرها تعقيدًا، فقد" أشكلت ظاهرة المذكر والمؤنث على الباحثين قديماً وحديثاً؛ لأنها لا تخضع إلى منطق، ولا تتسق والجنس الطبيعيّ" ، أعرب ابن السراج عن صعوبة باب التذكير والتأنيث بقوله: " واعلم أن من التأنيث والتذكير ما لا يعلم ما قصد به، كما أنه يأتيك من الأسماء ما لا يعرف لأي شيء هو..." ، وقد ذكر ابن التستري في فاتحة كتابه (المذكر والمؤنث) قوله:" ليس يجري أمر المذكر والمؤنث على قياس مطّرد ولا لهما باب يحصرهما " ، ولعل الغموض الذي أحاط بهذه المسألة قد يعود إلى التصاق التذكير والتأنيث بالتاريخ اللّغوي، ونشأة اللغة والتطور الذي طرأ على مسيرتها أمر مجهول كما قرره العلماء والباحثون، هذا وكان الجنس في اللغات طارئاً، وأن نشوءه كان محض مصادفة تاريخية، فالأصل في اللغة عدم وجود الجنس أو النوع، ولكن ظهوره جاء في فترات لاحقة، كما أسهم وجود المحايد المجازي من المذكر والمؤنث في اللغة إلى إيجاد الاضطراب في اللغة العربية خاصة واللغات السامية عامة؛ لأنه لا ينتظم وفق قانون أو قاعدة بل المعول عليه السماع والرواية، لذا تباينت الآراء حوله" ، مما جعل المستشرق (برجشتراسر Gotthelf Bergsträßer) يصرح إن" التأنيث والتذكير من أغمض أبواب النحو، ومسائلهما عديدة مشكلة ولم يوفق المستشرقون إلى حلها حلًا حازمًا" ، وباب الجنس ينفلت قواعده ويصعب حصرها واطرادها، فهي من الأبواب التي تعتاص على ابن اللغة في تحديد كثير من الكلم مما ليس في بنيته إحدى علامات المؤنث، وأغلب الظن أن الاعتياص المتحصل بسبب التأصيل اللغوي، وغياب الإجابات عما يدور في خَلَد واضعي اللغة قديمًا.
    على الرغم من كثرة ما سطّره السابقون، وضجّت به مصنفاتهم، إلا أنهم لم يأتوا بالفيصل في هذه المسألة ومهما يكن من أمر فإن هذه الظاهرة لا تسير على وفق منطق عقلي في تصنيف الألفاظ، كما رأى(فندريس) أن "التمييز بين الأجناس النحوية لا يقوم على شيء من العقل" ، إذ إن حمل الأشياء على المذكر أو المؤنث مجازيًا، منوط بتصورات الشعوب لهذه الأشياء، فما اقترب في شكله أو صفته تربطه بالأنثى الطبيعية جعلوه مؤنثاً، وإن اقترب من المذكر عاملوه معاملة المذكر الحقيقيّ ؛ ولذا نرى النحاة من العرب يقسمون التأنيث إلى مؤنث حقيقي ومؤنث مجازي، ولكل منهما أحكامه اللغوية التي تشترك في أمور وتختلف في أمور؛ فكأن العربية القديمة كانت قد مرت بمرحلة تاريخية لم يكن الجنس فيها واضحًا تمام الوضوح بقسميه المذكر والمؤنث ولعل هذا ما جعل القدماء، يتقلّدون اهتمامهم، بباب التذكير والتأنيث، فأفردوا له المؤلفات، موضحين المذكّر من المؤنّث، وما يستوي فيه التذكير والتأنيث، محتكمين في ذلك إلى التأويل والترجيح، في إطار قانون الحمل على المعنى.
    على غرار أن اللغة مصفاة فكرية وأداة للنمذجة والتصنيف، ونظرًا لكون النحو وثيقة اجتماعية، كان للنحاة في مسألة التذكير والتأنيث إشكاليات ومباحث شتى، ومن جانبنا نكتفي بإيراد بعض القضايا التي نرى فيها انحيازًا نحو الرجل، وما تشحنه الحمولة الثقافيّة من عنف لغويّ انحيازي، إذ لم يكن النحو بمعزل عن الثقافة السائدة، فقد انبثقت قواعده انعكاسًا للواقع، وما كان النحويون إلا أن يركنوا إلى سلطان البيئة والثقافة التي قررت أنّ الذكر أصل ومنه اشتقت الأنثى، ولا بد أن يُغلب الأصل على الفرع ، وهي مسائل لا بُدَّ أَنْ تُؤثر في اللغة، لأنها أداة كشف عن روافد هذا النظام، فليس بمستغرب أن تنساب إليها، ويبدو ذلك بيّنًا في تغليب المذكر على المؤنث.


Summarize English and Arabic text online

Summarize text automatically

Summarize English and Arabic text using the statistical algorithm and sorting sentences based on its importance

Download Summary

You can download the summary result with one of any available formats such as PDF,DOCX and TXT

Permanent URL

ٌYou can share the summary link easily, we keep the summary on the website for future reference,except for private summaries.

Other Features

We are working on adding new features to make summarization more easy and accurate


Latest summaries

قانون - إطار رق...

قانون - إطار رقم 51.17 يتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي قانون - إطار رقم 51.17 يتعلق ب...

التضخم المرتفع:...

التضخم المرتفع: يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية للحد من الإنفاق الاستهلاكي والا...

هي منطقة في شما...

هي منطقة في شمال غرب أفريقيا تبلغ مساحتها 266 الف كم2 ما يقارب من 30% من الأراضي أي 82 الف كم2 تسيطر...

Lors de cette s...

Lors de cette séance, nous avons constaté qu’il est important d’habituer les apprenants à prendre la...

تقف منطقة آسيا ...

تقف منطقة آسيا والمحيط الهادئ عند مفترق طرق حاسم في مسيرتها نحو التنمية المستدامة. فعلى الرغم من بعض...

واعتماد الشهبند...

واعتماد الشهبندر في إدارته للشركة والتعامل الآدمي مع العمالة البشرية هو سنة خاصة به حتى قبل الاحتكاك...

Les théories de...

Les théories de la motivation appliquées à l’éducation permettent de mieux comprendre ce qui pousse ...

المبحث الأول: ا...

المبحث الأول: العنف اللغوي في المستويين النحويّ والصرفيّ استيقظ الإنسانُ منذ البدء على صوت العنف،...

خير صناعات العر...

خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته . فالشعر في رأى العرب كما هو في رأى اليونان صناعة ...

Hello, my name ...

Hello, my name is Muhammad Mahmoud Bakr. I am a 5th-year Pharmacy student at Sphinx University, expe...

- استلمت المنتج...

- استلمت المنتجات بتاريخ 12 مايو، بعد طلبها منذ 16 أبريل، مع تأخير في التسليم ، لم تصل بشكل كامل ( ...

They informed m...

They informed me that there will be some delay for my surgery since there's a lot of patience but I'...