لخّصلي

تميز القرن التاسع عشر بالدخول في فترة التوسعات الإمبريالية، كنتيجة لهذه الحركة التوسعية، استوطنت شرائح واسعة من
الأوربيين في المستعمرات، فضمت من بينها إداريين ومبشرين دينيين وبرامج علمية تضم أنثروبولوجيين وسوسيولوجيين
ومختصين في علوم أخرى، كل هؤلاء كانوا يرسلون التقارير الإدارية والعسكرية والعلمية، فكانت مادة أولية خصبة لإثارة
مجموعة من الإشكاليات وإنتاج مؤلفات فكرية وعلمية.
ظهرت التطورية بداية في حقل العلوم الطبيعية من خلال نظرية عالم الأحياء الفرنسي جان باتيست دو لا مارك jean baptiste de lamarck 4181-4411 ( الذي يعد أول من استعمل كلمة "بيولوجيا"، وكان من بين الأوائل الذين طرحوا (
4118 (، الذي طور هذه النظرية بطرح مبدأ - فرضية تطور الكائنات الحية، ثم جاء بعده شارل روبير داروين ) 4181
الانتخاب الطبيعي القائم على فكرة البقاء للأصلح والأقوى والأكثر قدرة على التكيف، وقد أثرت نظرية داروين في الكثير من
الاتجاهات العلمية والإيديولوجية.
أطروحات النظرية التطورية
من أهم الأفكار التي جاءت بها المدرسة التطورية ما يلي:
)4 اختلاف المجتمعات حسب درجة تطورها؛
)8 التغير هو قاعدة كونية في المجتمعات؛
)3 تتطور المجتمعات عبر مراحل، متبعة في ذلك خطا أحاديا unilinéaire وتعاقبيا لتاريخ البشرية. تسمى هذه النظرية
أيضا نظرية المتوازيات، لأنها تفترض أن جميع المجتمعات، مهما كانت منفصلة عن بعضها، تمر بنفس الخطوط التطورية
أي بخطوط متوازية من التطور، ويكمن الفرق بينها في درجة وسرعة هذا التطور؛
)1 الشعوب البدائية هي الأسلاف العليا للإنسان المتحضر، حيث تمثل الحضارة الأوربية أرقى مستويات التطور، في
حين أن الشعوب البدائية تمثل المستويات البسيطة منه، وعلى العلم إذن أن يبحث في آليات هذا الانتقال من البسيط
إلى المركب؛
)5 تعتقد النظرية التطورية في "وحدة نفسية" للإنسانية، فكل المجتمعات لها نفس القدرات العقلية ونفس القدرة على
التفكير، فعندما تواجه هذه المجتمعات نفس المشكلات يتم اختراع نفس الحلول؛
)6 إذا كانت الشعوب المتحضرة تتحدر من الشعوب البدائية، فهذا يعني أن الشعوب البدائية هي أيضا قادرة على التطور
عبر مراحل. تعتبر هذه الفكرة بمثابة رد على الاعتقاد القائل إن اختلاف الشعوب مرده إلى الاختلاف السلالي وإن
هناك شعوبا غير قادرة على التطور، وهو الاعتقاد الذي أفرز النزعة العنصرية الغربية التي لازالت مستمرة في
القرن الواحد والعشرين وتأخذ أشكالا جديدة ومختلفة؛
البحث عن قوانين التقدم
)1 في هذا السياق، كانت الاكتشافات المتوالية لعلم الآثار تعزز نظرية التطور، خاصة بعد تحقيب فترة ما قبل التاريخ
وتصنيفها إلى عدد من العصور.
)1 على غرار ذلك، صنف التطوريون مراحل تطور البشرية وقسّموها إلى ثلاث مراحل:
 مرحلة التوحش )ساد فيها نمط القطف والقنص(؛
 مرحلة البربرية، وتتناسب مع مرحلة الفلاحة والرعي؛
 مرحلة التحضر، مع ظهور التجارة والصناعة والعلم.
التطوريون الرواد
من التطورين الرواد الذين فتحوا باب الأبحاث في هذه النظرية، نجد أعمال باخوفن Bachofen وماكلينان ومين Maine
الذي اشتغلوا حول تطور الأنظمة القرابية، فرأى باخوفن بالتطور من نظام الشيوعية الجنسية أو المشاعية الجنسية la promiscuité إلى النظام الأميسي ثم إلى النظام الأبيسي.
)1818- إساهمات هنري لويس مورغان ) 1881 Henry Lewis Morgan
يعتبر مورغان من المؤسسين الفعليين للنظرية التطورية وهناك من يعتبره المؤسس الفعلي للأنثروبولوجيا الأمريكية، على
اعتبار أنه من الأوائل الذين قاموا بأبحاث أنثروبولوجية ميدانية بين قبائل الهنود الحمر، وذلك على غرار معاصره تايلور،
التي اشترك معه في اعتماد التحليل المادي في نظرية التطور.
تفرغ مورغان للدراسة الأنثروبولوجية لهذه القبائل، ونشر حولها كتاب "المجتمع البدائي" سنة 4144 ، فتناول نظام القرابة
والتنظيم السياسي كمدخل لدراسة التطور الاجتماعي لدى هذه الشعوب. وقد شرح في مقدمة كتابه أن هدفه من هذا النشر هو
التعريف بالهنود وبمؤسساتهم، بعيدا عن الأحكام السلبية المسبقة. من ناحية أخرى، اهتم مورغان بثقافة هذه الشعوب بعد أن
لاحظ أن تراثها الثقافي والاجتماعي مهدد بالاندثار نتيجة توسع الحضارة الغربية بأمريكا.
عند تقسيم مورغان لتاريخ البشرية إلى ثلاث مراحل تطورية )التوحش والبربرية والقرابة(، فقد ربط الانتقال من مرحلة إلى
أخرى بكل من اختراع الوسائل الضرورية للعيش أو ما يسميه بتقنيات وفنون المعاش من جهة أولى، وبتطور الأفكار من
جهة ثانية )مثل تطور فكرة العائلة وفكرة الحكومة وفكرة الملكية(.
إن هذا الربط المادي بين مستوى تطور المجتمع ووسائل الإنتاج سيستغله فريديريك أنجلز في كتابه "أصل العائلة والملكية
الخاصة والدولة" لتقديم قراءة مادية لتاريخ الإنسانية بمنظور ماركسي، بعد أن أعجب بالقراءة الدينامية للتاريخ التي قام بها
مورغان. ويشار إلى أن إنجلز كان له الفضل في التعريف بمساهمات مورغان في أوربا.
بالإضافة إلى ذلك، تأثر ماركس بشكل مهم بأعمال مورغان، وكمثال على ذلك، فكرة المشاعية التي كانت سائدة في مرحلة
التوحش من تاريخ البشرية، والتي عزز بها نظريته حول الشيوعية.
)1111- إسهامات إدوارد بورنيت تايلور ) 1881 Edward Burnett Tylo
اعتقد تايلور أيضا بفرضية وحدة النفس البشرية التي عرفت بها النظرية التطورية، وهي الفرضية التي يترتب عنها ضرورة
الالتزام الشامل والإنساني بقيمة المساواة بين الأعراق البشرية وضرورة تبني مبدأ النسبية في التحليل لمقاومة النزعة المركزية
الأوربية وما أسفرت عنه من عنصرية.
لكن، تنبغي الإشارة، إلى أنه على خلاف مورغان، كان تايلور أقل تمسكا بالحتمية التي تمارسها وحدة النفس البشرية على
عمليات التطور، فقد كان يسلّم أن المسارات الثقافية التي سلكتها الشعوب لم يكن لها أن تتكرر أينما كان على نفس المنوال.
تبين له ذلك من خلال تجاربه في المكسيك عبر وقوفه على ظواهر الاحتكاك الثقافي ومحاكاة الشعوب لبعضها البعض، مما
جعله يعتقد بإمكانية أن يكون التطور قد تم بناء على مساهمات خارجية وأنه كان أشد تنوعا مما يظن الآخرون.
ظهرت مع تايلور فكرة "البقايا الحية" التي وظفت كثيرا لدى التطوريين لاحقا، فلم تعد فكرة البقايا تقتصر على الأدوات المادية
الأركيولوجية، بل أصبحت تشمل أيضا العادات والتقاليد والممارسات الطقوسية أو الاجتماعية التي استمرت بعض معالمها
القديمة وبقيت في تلك المجتمعات المصنفة كبدائية. هكذا كان "البقاء الثقافي"، بنظر تايلور، عبارة عن رواسب ثقافية فقدت
ووظائفها الأصلية في المجتمع، إلا أنها استمرت في البقاء دون سبب معين.
لعل أكثر ما اشتهر به تايلور هو تعريفه لمفهوم الثقافة، نظرا لكونه ظل معتمدا بين الكثير من الأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين
إلى يومنا هذا. عّرف تايلور الثقافة في الصفحة الأولى من كتابه "الثقافة البدائية"، الصادر سنة 1781 ، على أنها "كل مركب
يشتمل على المعارف، المعتقدات، الفنون، الأخلاق، القوانين، الأعراف وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان كعضو
في مجتمع معين".
على خلاف التطوريين الآخرين الذين ركزوا في أعمالهم على موضوع العائلة والقرابة، ركز تايلور على مفهوم الثقافة والدين،
طارحا بذلك كونية وتطورية الظاهرة الدينية. في سياق هدفه الرامي إلى البحث عن أصل الدين وإلى إثبات أن الاعتقاد الديني
لم يكن وحيا إلهيا بل نتاج محاولة للبشر من أجل فهم وشرح العالم، توصل تايلور إلى أن المجتمعات البدائية لا تعرف آلهة عليا،
وهي لا تفرق بين الواقع والمتخيل، فهي غارقة في طبيعة تحركها قوى وكائنات ميتافيزيقية يجب التوافق معها.
بهذا، فالديانة الأرواحية l’animisme هي نقطة الصفر في تطور الظاهرة الدينية، والمقصود بهذه الديانة هي الاعتقاد بوجود
أرواح تحرك elle anime وتسكن في الكائنات البشرية والحيوانية والنباتية والجمادات والفضاءات، والاعتقاد أيضا في قدرتها
على الحماية أو إلحاق الضرر، مما يتطلب القيام بطقوس تعبدية un culte من أجلها .
بعد ذلك، أسفر تطور الظاهرة الدينية عن ظهور الفيتيشية le fétichisme ، وهي عبادة الأشياء )الأصنام( أو عناصر من
الطبيعية )النار، الجبال، الأنهار، الأشجار...(. ولاحقا، ظهر تعدد الآلهة le polythéisme ثم في مرحلة أخرى ظهرت
الديانات التوحيدية.
)1111- إسهام جيمس جورج فرازر ) 1881 james georges frazer
اشتهر فرازر بكتابه "الغصن الذهبي" le rameau d’or الذي اتخذ شكل رواية نشرت في إثنا عشر جزءا، منذ سنة 4118
. حتى سنة 4145
قدم فرازر في هذا الكتاب الموسوعي جردا عالميا للأساطير والطقوس وما يتعلق بالظواهر الدينية، سواء تلك التي اطلع عليها
من خلال قراءاته أو من خلال المعطيات التي يرسلها مختلف الإخباريين عبر العالم.
قام فرازر بتركيب التاريخ الديني للبشرية في ثلاث مراحل، مثله في ذلك مثل ما قام به تايلور ومورغان وأوغست كونت.
تمثلت هذه المراحل في:
 مرحلة السحر، وهي التي طبعت بداية تاريخ البشرية، وتتناسب مع بحث الإنسان عن كائنات ميتافيزيقية لمساعدته
على حل مشاكله والهيمنة على الطبيعة، لذلك يعتبر السحر هو أصل الدين؛
 مرحلة الدين، وهي تعبر عن يأس الإنسان من الهيمنة على الطبيعة ووضع مصيره بين يدي الآلهة؛
 مرحلة العلم، واعتبرت مرحلة الخلاص التي ستمكنه من فهم أسرار الطبيعة وتجاوز المرحلتين السابقتين اللتان
اعتبرتا شرحا وهميا للعالم، ومن خلال فهمهما يمكن فهم أصل الرواسب الثقافية التي استمر وجودها في المجتمعات
المتحضرة.