لخّصلي

خدمة تلخيص النصوص العربية أونلاين،قم بتلخيص نصوصك بضغطة واحدة من خلال هذه الخدمة

نتيجة التلخيص (21%)

لا ريب فى أن المراحل التى قطعها الشعر العربى حتى استوى فى صورته الجاهلية غامضة، فليس بين أيدينا أشعار تصور أطواره الأولى، وهى تقاليد تلقى ستارا صفيقا بيننا وبين طفولة هذا الشعر ونشأته الأولى فلا نكاد نعرف من ذلك شيئا. نبكى الديار كما بكى ابن خذام
ولا نعرف من أمر ابن خذام هذا شيئا سوى تلك الإشارة التى قد تدل على أنه أول من بكى الديار ووقف فى الأطلال. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت فى أوزانها وقوافيها، من ذلك قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدى (١):
أقفر من أهله ملحوب . فالقطبيّات فالذّنوب
وعلى غرارها قصيدة تنسب لامرئ القيس مطلعها (٢):
كأن شأنيهما أوشال
ومثلهما فى هذا الاضطراب قصيدة المرقّش الأكبر (٣):
فهى من وزن السريع، ما ذنبنا فى أن غزا ملك . من آل جفنة حازم مرغم
فإنه من وزن الكامل. وعلى هذه الشاكلة قصيدة عدى بن زيد العبادى (٤):
مثل الكتاب الدارس الأحول فهى من وزن السريع وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثانى من هذا البيت:
أنعم صباحا علقم بن عدى . أثويت اليوم أم ترحل
ويماثل هذه القصيدة فى اختلال الوزن قصيدته (١):
وقد أتى لما عهدت عصر
ومن هذا الباب نونية سلمىّ بن ربيعة التى أنشدها أبو تمام فى الحماسة (٢):
وهو اختلاف حركة الروى فى القصيدة كقول امرئ القيس فى معلقته يصف جبل أبان:
فقد ضم اللام فى نهاية البيت، وهى مكسورة فى المعلقة جميعها. وزعم بعض القدماء والمحدثين أن الرجز أقدم أوزان الشعر العربى، وكل ما يمكن أن يقال هو أن الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعا فى الجاهلية، إذ كانوا يرتجلونه فى كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم فى السلم والحرب، وعدّ ابن سلام فى طبقاته أربعين من فحولهم وفحول المخضرمين وقد جعلهم فى عشر طبقات وجعل فى كل طبقة أربعة، وأضاف إليهم
فقد تفوقت القبائل التى نزلت فى العراق على قبائل الشام والأخرى التى نزلت فى مصر وبلاد المغرب والأندلس، ومثلها المدن فمكة كانت قليلة الشعر (٣)، ولهم فى الإسلام شعراء مفلقون. ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير (٢)». ونحن لا نبالغ مبالغة أبى عمرو، من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر، وهى فى حقيقتها قصة إلا أنها كتبت شعرا، ويكوّن من ذلك قصيدته، وعند هو راس الشاعر الرومانى فى قصيدته «فن الشعر» التى نظمها فى قواعد الشعر ونقده، وكما هو معروف عن أبان بن عبد الحميد شاعر البرامكة فى قصيدته التى نظم فيها أحكام الصوم والزكاة. فهو فى كل ذلك يغفل نفسه ولا يقف عندها، إنما يقف عند جانب قصصى تاريخى يحكيه أو علمى تهذيبى يرويه أو تمثيلى مسرحى يؤديه، متجردا عن شخصه وما يتصل بذاته وأهوائه وعواطفه. إذ يماثل الشعر الغنائى الغربى من حيث إنه ذاتى يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس، سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثى أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أى شئ مما ينبثّ حوله فى جزيرته. وليس هذا فحسب، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون فيه، فهم يروون أن المهلهل غنىّ فى قصيدته:
ء لعوب لذيذة فى العناق (١)
ببعض الذى غنّى امرؤ القيس أو عمرو
ويقول حسان بن ثابت (٣):
تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله . إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ولعلهم من أجل ذلك عبروا عن إلقائه بالإنشاد، ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصّنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، تغنّى فإن اليوم يوم من الصّبا . ببعض الذى غنّى امرؤ القيس أو عمرو
وهو يقصد بعمرو، ويقول حسان بن ثابت (٣):
ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصّنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، ويروى الرواة أنه كان بمكة قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس وكانتا تغنيان الناس (٦) وفى أخبار غزوة بدر أنه لما نصح أبو سفيان قريشا أن تعود قبل أن يوقع الرسول عليه السلام بها قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب (٧).


النص الأصلي

لا ريب فى أن المراحل التى قطعها الشعر العربى حتى استوى فى صورته الجاهلية غامضة، فليس بين أيدينا أشعار تصور أطواره الأولى، إنما بين أيدينا هذه الصورة التامة لقصائده بتقاليدها الفنية المعقدة فى الوزن والقافية وفى المعانى والموضوعات وفى الأساليب والصياغات المحكمة، وهى تقاليد تلقى ستارا صفيقا بيننا وبين طفولة هذا الشعر ونشأته الأولى فلا نكاد نعرف من ذلك شيئا. وحاول ابن سلام أن يرفع جانبا من هذا الستار فعقد فصلا (١) تحدث فيه عن أوائل الشعراء الجاهليين، وتأثر به ابن قتيبة فى مقدمة كتابه الشعر والشعراء، فعرض هو الآخر لهؤلاء الأوائل، وهم عندهما جميعا أوائل الحقبة الجاهلية المكتملة الخلق والبناء فى صياغة القصيدة العربية، وكأن الأوائل الذين أنشأوا هذه القصيدة فى الزمن الأقدم ونهجوا لها سننها طواهم الزمان. وفى ديوان امرئ القيس (٢).


عوجا على الطّلل المحيل لأننا ... نبكى الديار كما بكى ابن خذام


ولا نعرف من أمر ابن خذام هذا شيئا سوى تلك الإشارة التى قد تدل على أنه أول من بكى الديار ووقف فى الأطلال.


وتتراءى لنا مطولات الشعر الجاهلى فى نظام معين من المعانى والموضوعات، إذ نرى أصحابها يفتتحونها غالبا بوصف الأطلال وبكاء آثار الديار، ثم يصفون رحلاتهم فى الصحراء وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيرا ما يشبهون الناقة فى سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمصون فى تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدتهم مديحا أو هجاء وفخرا أو عتابا واعتذارا أو رثاء. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت فى أوزانها وقوافيها، فهى تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات وتتحد جميع الأبيات فى وزنها وقافيتها وما تنتهى به من روىّ.


وتلقانا هذه الصورة التامة الناضجة للقصيدة الجاهلية منذ أقدم نصوصها، وحقّا توجد قصائد يضطرب فيها العروض ولكنها قليلة، من ذلك قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدى (١):


أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيّات فالذّنوب


فهى من مخلّع البسيط، وقلما يخلو بيت منها من حذف فى بعض تفاعيله أو زيادة على نحو ما نرى فى الشطر الأول من هذا المطلع، وعلى غرارها قصيدة تنسب لامرئ القيس مطلعها (٢):


عيناك دمعهما سجال ... كأن شأنيهما أوشال


ومثلهما فى هذا الاضطراب قصيدة المرقّش الأكبر (٣):


هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان رسم ناطقا كلّم


فهى من وزن السريع، وخرجت شطور بعض أبياتها على هذا الوزن كالشطر الثانى من هذا البيت:


ما ذنبنا فى أن غزا ملك ... من آل جفنة حازم مرغم


فإنه من وزن الكامل. وعلى هذه الشاكلة قصيدة عدى بن زيد العبادى (٤):


تعرف أمس من لميس الطّلل ... مثل الكتاب الدارس الأحول فهى من وزن السريع وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثانى من هذا البيت:


أنعم صباحا علقم بن عدى ... أثويت اليوم أم ترحل


فإنه من وزن المديد. ويماثل هذه القصيدة فى اختلال الوزن قصيدته (١):


قد حان أن تصحو أو تقصر ... وقد أتى لما عهدت عصر


ومن هذا الباب نونية سلمىّ بن ربيعة التى أنشدها أبو تمام فى الحماسة (٢):


إن شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون


فقد لاحظ التبريزى والمرزوقى أنها خارجة عن العروض التى وضعها الخليل.


واضطراب هذه القصائد فى أوزانها مما يدل على صحتها وأن أيدى الرواة لم تعبث بها.


ومعروف أن الزحافات تكثر فى الشعر الجاهلى، بل فى الشعر العربى بعامة، ومما كان يشيع بينهم الإقواء، وهو اختلاف حركة الروى فى القصيدة كقول امرئ القيس فى معلقته يصف جبل أبان:


كأن أبانا فى أفانين ودقه ... كبير أناس فى بجاد مزمّل (٣)


فقد ضم اللام فى نهاية البيت، وهى مكسورة فى المعلقة جميعها. وفى رأينا أن احتفاظ الشعر الجاهلى بهذه العيوب العروضية مما يؤكد صحته فى الجملة وأن الرواة لم يصلحوه إصلاحا واسعا، كما يزعم بعض المحدثين.


ومهما يكن فليس بين أيدينا أشعار تصور مرحلة غير ناضجة من نظام الوزن والقافية فى الجاهلية، فإن نفس هؤلاء الشعراء الذين رويت عنهم تلك القصائد المضطربة فى وزنها روى عنهم قصائد كثيرة مستقيمة فى وزنها وقوافيها، مما يدل على أن ذلك كان يأتى شذوذا وفى الندرة. وزعم بعض القدماء والمحدثين أن الرجز أقدم أوزان الشعر العربى، وأنه تولد من السجع، مرتبطا بالحداء ووقع أخفاف الإبل فى أثناء سيرها وسراها فى الصحراء، ومنه تولدت الأوزان الأخرى (١)، غير أن هذا كله مجرد فروض. وكل ما يمكن أن يقال هو أن الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعا فى الجاهلية، إذ كانوا يرتجلونه فى كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم فى السلم والحرب، ولكن شيوعه لا يعنى قدمه ولا سبقه للأوزان الأخرى، إنما يعنى أنه كان وزنا شعبيّا لا أقل ولا أكثر. وكان الشعراء الممتازون فى الجاهلية لا ينظمون منه، إنما ينظمون فى الطويل والبسيط والكامل والوافر والسريع والمديد والمنسرح والخفيف والوافر والمتقارب والهزج، وإن كان نظمهم فى الثلاثة الأولى أكثر وأوسع.


والحق أنه ليس بين أيدينا شئ من وزن أو غير وزن يدل على طفولة الشعر الجاهلى وحقبه الأولى، وكيف تمّ له تطوره حتى انتهى إلى هذه الصورة النموذجية التى تلقانا منذ أوائل العصر الجاهلى أو بعبارة أخرى منذ أوائل القرن السادس الميلادى. ولم تكن تختص بهذا الشعر فى الجاهلية قبيلة دون غيرها من القبائل الشمالية عدنانية أو قحطانية، وآية ذلك أننا نجد الشعراء موزعين عليها، فمنهم من ينسب إلى القبائل القحطانية مثل امرئ القيس الكندى وعدىّ بن رعلاء الغسانى (٢) والحارث بن وعلة الجرمىّ القضاعى (٣) ومالك بن حريم الهمدانىّ (٤) وعبد يغوث الحارثى النّجرانى (٥) والشّنفرى الأزدى (٦) وعمرو بن معد يكرب المذحجى (٧)، أما من ينسبون إلى مضر وربيعة فأكثر من أن نسميهم، وعلى شاكلتهم من ينسبون إلى الأوس والخزرج القحطانيين فى المدينة. ونحن لا نستطيع أن نحصى من جرى لسانهم بالشعر حينئذ، فقد كانوا كثيرين، وكانت تشركهم فيه النساء مثل الخنساء، وكان ينظمه سادتهم وصعاليكهم. ويخيل إلى الإنسان أن الشعر لم يكن يستعصى على أحد منهم، وعدّ ابن سلام فى طبقاته أربعين من فحولهم وفحول المخضرمين وقد جعلهم فى عشر طبقات وجعل فى كل طبقة أربعة، وأضاف إليهم
أربعة من أصحاب المراثى كما أضاف تسعة فى مكة وخمسة فى المدينة وخمسة فى الطائف وثلاثة فى البحرين، وعدّ لليهود ثمانية. ومن يرجع إلى هؤلاء الشعراء يجد بينهم البدوى والحضرى كما يجد بين البدو اليمنى والرّبعى والمضرى.


وترجم أبو الفرج فى الأغانى لكثيرين منهم، وتراجمه هو الآخر إنما تقف عند مقدّميهم الذين دوّت شهرتهم، ووراءهم كثيرون لم يترجم لهم، يعدون بالمئات على نحو ما يصور لنا ذلك المؤتلف والمختلف للآمدى ومعجم الشعراء للمرزبانى. ومن غير شك سقط من ذاكرة الرواة أسماء كثيرين لم يسجلوهم، ويشهد لذلك قول ابن قتيبة: «والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم فى الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره فى التنقير عنهم واستفرغ مجهوده فى البحث والسؤال، ولا أحسب أحدا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه ولا قصيدة إلا رواها» (١). ومن يقرأ فى كتاب المؤتلف والمختلف للآمدى يجده يقول كثيرا إن شاعرا بعينه لم يجد له شعرا ولا ذكرا فى ديوان قبيلته (٢). فدواوين القبائل لم تستقص هؤلاء الشعراء استقصاء دقيقا.


والذى لا ريب فيه أن حظ القبائل المضرية من هذا الشعر الجاهلى كان أوفر من حظ القبائل الرّبعية والقحطانية، واقرأ فى الأغانى والمفضليات والأصمعيات فستجد لمضر الكثرة الكثيرة من الشعر والشعراء، وهى كثرة يؤيدها تاريخها فى الإسلام، فقد تفوقت القبائل التى نزلت فى العراق على قبائل الشام والأخرى التى نزلت فى مصر وبلاد المغرب والأندلس، لأنها كانت فى جمهورها مضرية بينما كانت تلك فى معظمها قحطانية.


وكان حظ القبائل المضرية من الشعر متفاوتا، وكذلك كانت القبائل الربعية والقحطانية، فقبائل كل مجموعة ليست سواء فيه، ومثلها المدن فمكة كانت قليلة الشعر (٣)، وأقل منها نصيبا فيه اليمامة (٤). ووقف الجاحظ فى حيوانه عند جانب من حظوظ القبائل وتفاوتها فى ذلك فقال: «وبنو حنيفة «سكان اليمامة» مع كثرة عددهم وشدة بأسهم وكثرة وقائعهم وحسد العرب لهم على دارهم، وتخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرا كلها، ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعرا منهم. وفى إخوتهم عجل قصيد ورجز وشعراء ورجّازون. وليس ذلك لمكان الخصب وأنهم أهل مدر وأكّالو تمر، لأن الأوس والخزرج كذلك، وهم فى الشعر كما قد علمت. وكذلك عبد القيس النازلة قرى البحرين، فقد نعرف أن طعامهم أطيب من طعام أهل اليمامة. وثقيف «سكان الطائف» أهل دار ناهيك بها خصبا وطيبا، وهم وإن كان شعرهم أقل فإن ذلك القليل يدل على طبع فى الشعر عجيب. وليس ذلك من قبل رداءة الغذاء، ولا من قلة الخصب الشاغل والغنى عن الناس، وإنما ذلك على قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز. . وبنو الحارث ابن كعب (سكان نجران) قبيل شريف يجرون مجارى ملوك اليمن ومجارى سادات الأعراب أهل نجد، ولم يكن لهم فى الجاهلية كبير حظّ فى الشعر، ولهم فى الإسلام شعراء مفلقون. . وقد يحظى بالشعر ناس ويخرج آخرون، وإن كانوا مثلهم أو فوقهم. . وقد كان فى ولد زرارة (جد بطن من تميم) لصلبه شعر كثير كشعر لقيط وحاجب وغيرهما من ولده. ولم يكن لحذيفة ولا حصن ولا عيينة بن حصن ولا لحمل بن بدر شعر مذكور» (١).


ومن المحقق أنه فقد كثير من الشعر الجاهلى، إذ عدت عليه عوادى الرواية وتلك الرحلة الطويلة التى قطعها من الجاهلية إلى عصور التدوين، ويروى عن أبى عمرو بن العلاء أنه كان يقول: «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير (٢)». ونحن لا نبالغ مبالغة أبى عمرو، فقد بقى منه كثير ألّفت فيه مجلدات ضخام، إذ حافظت القبائل بكل ما استطاعت على قصائده الطوال ومقطعاته القصار وكثير من أبياته المفردة، وما زالت تحافظ عليه، حتى أسلمته إلى أيدى رواة أمناء سجلوه ودونوه.
[٢ - الشعر الجاهلى شعر غنائى]


من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر، يردها نقادهم إلى أربعة أضرب، شعر قصصى وتعليمى وغنائى وتمثيلى، ويمتاز الضرب الأول بأن قصائده طويلة، فالقصيدة منه تمتد إلى آلاف الأبيات، وتتوالى فيها حلقات من الأحداث تنعقد حول بطل كبير، وقد يوجد بجانبه أبطال، ولكن أدوارهم ثانوية. وهى فى حقيقتها قصة إلا أنها كتبت شعرا، فالتسلسل القصصى فيها دقيق والانتقال بين أجزائها منطقى محكم، وهى قصة تفسح للخيال مجالا واسعا، ولذلك كانت تكثر فيها الأساطير والأمور الخارقة، وكانت الآلهة تظهر فيها عند اليونان بدون انقطاع. وخير ما يمثلها عندهم الإلياذة لهوميروس وقد نقلها إلى العربية منذ فاتحة هذا القرن سليمان البستانى، ولكثير من الأمم القديمة والحديثة قصائد قصصية تشبهها، فللرومان الإنيادة لفرجيل، وللهنود الرامايانا والمهابهاراتا وللفرس الشهنامة للفردوسى وللألمان أنشودة الظلام وللفرنسيين أنشودة رولان.


والشاعر فى هذا الضرب القصصى لا يتحدث عن عواطفة وأهوائه، فهو شاعر موضوعى ينكر نفسه، ويتحدث فى قصته عن بطل معتمدا على خياله، ومستمدّا فى أثناء ذلك من تاريخ قومه، وكل ما له أنه يخلق القصة ويرتب لها الأشخاص والأشياء، ويجمع لها المعلومات، ويكوّن من ذلك قصيدته، وعادة ينظمها من وزن واحد لا يخرج عنه. ولم تعرف الجاهلية هذا الضرب من الشعر القصصى، وهى كذلك لم تعرف الضرب الثانى من الشعر التعليمى الذى ينظم فيه الشاعر طائفة من المعارف على نحو ما نعرف عند هزيود الشاعر اليونانى وقصيدته «الأعمال والأيام» التى يصور فيها فصول السنة والحياة الريفية، وعند هو راس الشاعر الرومانى فى قصيدته «فن الشعر» التى نظمها فى قواعد الشعر ونقده، وكما هو معروف عن أبان بن عبد الحميد شاعر البرامكة فى قصيدته التى نظم فيها أحكام الصوم والزكاة. وكذلك لم يعرف الجاهليون الشعر التمثيلى الذى يعتمد على مسرح وعلى حركة وعمل معقد وحوار طويل بين الأشخاص، تتخلله مشاهد ومناظر مختلفة.
فهذه الضروب الثلاثة من الشعر لم يعرفها الجاهليون، فشعرهم منظومات قصيرة قلما تجاوزت مائة بيت، وهو شعر ذاتى يمثل صاحبه وأهواءه، على حين الضروب السابقة جميعا موضوعية، فالشاعر فيها لا يتحدث عن مشاعره وأحاسيسه إنما يتحدث عن أشياء خارجة عنه، سواء حين يقص أو حين يعلّم أو حين يمثّل، فهو فى كل ذلك يغفل نفسه ولا يقف عندها، إنما يقف عند جانب قصصى تاريخى يحكيه أو علمى تهذيبى يرويه أو تمثيلى مسرحى يؤديه، متجردا عن شخصه وما يتصل بذاته وأهوائه وعواطفه.


ولكن إذا كان الشعر الجاهلى يختلف عن ضروب الشعر الغربية القصصية والتعليمية والتمثيلية، فإنه يقترب من الضرب الرابع الغنائى، لأنه يجول مثله فى مشاعر الشاعر وعواطفه، ويصوره فرحا أو حزينا. وقد وجد من قديم عند اليونان، إذ عرفوا المدح والهجاء والغزل ووصف الطبيعة والرثاء، وكان يصحب عندهم بآلة موسيقية يعزف عليها تسمى (لير (Lyre ومن ثم سموه (Lyric) أى غنائى.


وإذن فنحن لا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهلى جميعه غنائى، إذ يماثل الشعر الغنائى الغربى من حيث إنه ذاتى يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس، سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثى أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أى شئ مما ينبثّ حوله فى جزيرته.


وليس هذا فحسب، فهو يماثل الأصول اليونانية للشعر الغنائى الغربى من حيث إنه كان يغنى غناء، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون فيه، فهم يروون أن المهلهل غنىّ فى قصيدته:


طفلة ما ابنة المحلّل بيضا ... ء لعوب لذيذة فى العناق (١)


ومعنى ذلك أن الشعر الجاهلى ارتبط بالغناء عند أقدم شعرائه. ومن حين إلى حين نجد أبا الفرج الأصبهانى يشير إلى أن شاعرا جاهليّا تغنى ببعض شعره من مثل السّليك بن السّلكة (٢) وعلقمة بن عبدة الفحل والأعشى، وكان يوقّع


شعره على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصّنج، ولعله من أجل ذلك سمى صنّاجة العرب (١). ويقول أبو النجم فى وصف قينة (٢):


تغنّى فإن اليوم يوم من الصّبا ... ببعض الذى غنّى امرؤ القيس أو عمرو


وهو يقصد بعمرو، عمرو بن قميئة. ويقول حسان بن ثابت (٣):


تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار


فالغناء كان أساس تعلم الشعر عندهم، ولعلهم من أجل ذلك عبروا عن إلقائه بالإنشاد، ومنه الحداء الذى كانوا يحدون به فى أسفارهم وراء إبلهم، وكان غناء شعبيّا عامّا.


ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصّنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، وكالبربط وهو آلة موسيقية وترية شاعت فى بلاد الإغريق، ويقص علينا علقمة بن عبدة أنه وفد على بلاط الغساسنة فاستمع عندهم إلى قيان بيزنطيات يضر بن على البرابط (٤) وكانوا كذلك فى الحيرة يستمعون إلى القيان وهن يضربن على الآلات الموسيقية الفارسية. وأدخلوا كثيرا من هؤلاء القيان إلى جزيرتهم من مثل خليدة وهريرة فى اليمامة (٥) والأخيرة هى صاحبة الأعشى التى ذكرها فى معلقته. ويروى الرواة أنه كان بمكة قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس وكانتا تغنيان الناس (٦) وفى أخبار غزوة بدر أنه لما نصح أبو سفيان قريشا أن تعود قبل أن يوقع الرسول عليه السلام بها قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب (٧). وفى السيرة النبوية أن الرسول أمر يوم فتح مكة بقتل رجل يسمى ابن خطل كان مسلما ثم ارتد وهرب إلى مكة، وكان له قينتان تغنيانه بهجاء الرسول، فأمر بقتلهما، فقتلت شعره على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصّنج، ولعله من أجل ذلك سمى صنّاجة العرب (١). ويقول أبو النجم فى وصف قينة (٢):


تغنّى فإن اليوم يوم من الصّبا ... ببعض الذى غنّى امرؤ القيس أو عمرو


وهو يقصد بعمرو، عمرو بن قميئة. ويقول حسان بن ثابت (٣):


تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار


فالغناء كان أساس تعلم الشعر عندهم، ولعلهم من أجل ذلك عبروا عن إلقائه بالإنشاد، ومنه الحداء الذى كانوا يحدون به فى أسفارهم وراء إبلهم، وكان غناء شعبيّا عامّا.


ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصّنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، وكالبربط وهو آلة موسيقية وترية شاعت فى بلاد الإغريق، ويقص علينا علقمة بن عبدة أنه وفد على بلاط الغساسنة فاستمع عندهم إلى قيان بيزنطيات يضر بن على البرابط (٤) وكانوا كذلك فى الحيرة يستمعون إلى القيان وهن يضربن على الآلات الموسيقية الفارسية. وأدخلوا كثيرا من هؤلاء القيان إلى جزيرتهم من مثل خليدة وهريرة فى اليمامة (٥) والأخيرة هى صاحبة الأعشى التى ذكرها فى معلقته. ويروى الرواة أنه كان بمكة قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس وكانتا تغنيان الناس (٦) وفى أخبار غزوة بدر أنه لما نصح أبو سفيان قريشا أن تعود قبل أن يوقع الرسول عليه السلام بها قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب (٧). وفى السيرة النبوية أن الرسول أمر يوم فتح مكة بقتل رجل يسمى ابن خطل كان مسلما ثم ارتد وهرب إلى مكة، وكان له قينتان تغنيانه بهجاء الرسول، فأمر بقتلهما، فقتلت شعره على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصّنج، ولعله من أجل ذلك سمى صنّاجة العرب (١). ويقول أبو النجم فى وصف قينة (٢):


تغنّى فإن اليوم يوم من الصّبا ... ببعض الذى غنّى امرؤ القيس أو عمرو


وهو يقصد بعمرو، عمرو بن قميئة. ويقول حسان بن ثابت (٣):


تغنّ بالشعر إمّا كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار


فالغناء كان أساس تعلم الشعر عندهم، ولعلهم من أجل ذلك عبروا عن إلقائه بالإنشاد، ومنه الحداء الذى كانوا يحدون به فى أسفارهم وراء إبلهم، وكان غناء شعبيّا عامّا.


ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصّنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، وكالبربط وهو آلة موسيقية وترية شاعت فى بلاد الإغريق، ويقص علينا علقمة بن عبدة أنه وفد على بلاط الغساسنة فاستمع عندهم إلى قيان بيزنطيات يضر بن على البرابط (٤) وكانوا كذلك فى الحيرة يستمعون إلى القيان وهن يضربن على الآلات الموسيقية الفارسية. وأدخلوا كثيرا من هؤلاء القيان إلى جزيرتهم من مثل خليدة وهريرة فى اليمامة (٥) والأخيرة هى صاحبة الأعشى التى ذكرها فى معلقته. ويروى الرواة أنه كان بمكة قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس وكانتا تغنيان الناس (٦) وفى أخبار غزوة بدر أنه لما نصح أبو سفيان قريشا أن تعود قبل أن يوقع الرسول عليه السلام بها قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب (٧). وفى السيرة النبوية أن الرسول أمر يوم فتح مكة بقتل رجل يسمى ابن خطل كان مسلما ثم ارتد وهرب إلى مكة، وكان له قينتان تغنيانه بهجاء الرسول، فأمر بقتلهما، فقتلت إحداهما، وفرّت الأخرى (١). ومر بنا أن أهل يثرب حين وفد عليهما النابغة أمروا إحدى القيان أن تغنى بشعر له فيه إقواء، حتى يقف على ما فيه من عيب (٢).


ويكثر ذكر هؤلاء القيان فى شعر الشعراء كما يكثر ذكر ما كنّ يضر بن عليه من آلات الطرب، كقول علقمة فى ميميته (٣):


قد أشهد الشّرب فيهم مزهر رنم ... والقوم تصرعهم صهباء خرطوم


ويقول الأعشى فى معلقته: ومستجيب تخال الصّنج يسمعه ... إذا ترجّع فيه القينة الفضل (٤)


ولطرفة فى معلقته وصف طويل لإحدى هؤلاء القيان. ولعل فى ذلك كله ما يدل على أن الغناء فى الجاهلية تأثر بعناصر أجنبية كثيرة.


وكان نساؤهم يؤلفن ما يشبه الجوقات ويتغنين فى حفلاتهم لاعبات على المزاهر (٥)، وفى الطبرى أن النبى صلى الله عليه وسلم سمع ذات يوم عزفا بالدفوف والمزامير، فسأل عنه، فعرف أنه عرس (٦)، وأكبر الظن أنهن كن يقرنّ هذا العزف بأناشيد كأناشيد الزفاف المعروفة عند اليونان والرومان. وكن يؤلفن فى الحروب جوقة كبيرة تحمّس وتثير، ففى الطبرى والأغانى أن هندا بنت عتبة ونسوة من قريش كن يضربن على الدفوف فى غزوة أحد وكانت هند تغنى فى تضاعيف هذا العزف بمقطوعات على شاكلة قولها (٧):


إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النّمارق (٨)


أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق (٩)


تلخيص النصوص العربية والإنجليزية أونلاين

تلخيص النصوص آلياً

تلخيص النصوص العربية والإنجليزية اليا باستخدام الخوارزميات الإحصائية وترتيب وأهمية الجمل في النص

تحميل التلخيص

يمكنك تحميل ناتج التلخيص بأكثر من صيغة متوفرة مثل PDF أو ملفات Word أو حتي نصوص عادية

رابط دائم

يمكنك مشاركة رابط التلخيص بسهولة حيث يحتفظ الموقع بالتلخيص لإمكانية الإطلاع عليه في أي وقت ومن أي جهاز ماعدا الملخصات الخاصة

مميزات أخري

نعمل علي العديد من الإضافات والمميزات لتسهيل عملية التلخيص وتحسينها


آخر التلخيصات

ثانياً: موهبة ا...

ثانياً: موهبة التفكير المنتج يعد التفكير من الصفات التي تتضح على الإنسان وليس للإنسان غنى عنه ويحتا...

In Shakespeare'...

In Shakespeare's play "Macbeth", Claudius is not a character; however, in "Hamlet," Claudius is the ...

في الوقت الحاضر...

في الوقت الحاضر ، تتزايد أهمية إنشاء المناطق المحمية في السياسات العامة ، مع ضمان حق السكان المحليين...

3.1.3 Types of ...

3.1.3 Types of false ceilings Pvc and Fiber glass( كل وحده اربع او 5 اسطر بالكتير 1- PVC (Pol...

التعاون الاقتصا...

التعاون الاقتصادي بين دولة الإمارات وجمهورية الهندية يعد محوراً هاماً في علاقاتهما الثنائية، حيث تشه...

عنوان الرسالة: ...

عنوان الرسالة: ظاهرة التضخم الوظيفي في ليبيا: دراسة متكاملة من سنة 1996 إلى سنة 2022 **المقدمة** ت...

### مقدمة رواي...

### مقدمة رواية "رب خرافة خير من ألف واقع" للكاتب يوسف جاسم رمضان هي رواية تتناول مواضيع فلسفية ونف...

In 2003, he dec...

In 2003, he decided to climb the remote Blue John Canyon in Utah. But little did he know that he wo...

كيف تفسر بان ا...

كيف تفسر بان الطلاب شاركوا في اللعبة دون معارضة واحيانا بتحمس ظاهر , פחד וחוסר ביטחון, וראו בתנועה...

أهم التعديلات ع...

أهم التعديلات على معيار 15 امتدت متطلبات الإفصاح عن الأطراف ذات العلاقة إلى التعهدات والارتباطات بي...

المطلب األول: ا...

المطلب األول: الطبيعة القانونية للمسؤولية المدنية عن أضرار السفن ذاتية القيادة يطرح موضوع تحديد المس...

‎تخدمك منصة قوى...

‎تخدمك منصة قوى بسوق العمل و بجميع معاملاتك وهو عبارة عن منصة خدمات اطلقتها وزارة الموارد البشرية وا...