لخّصلي

مَرَّة أُخْرى على شبّاكِنا تَبْكي
وَلا شيْءَ سوى الرّيحِ
وَحَبّاتٌ منَ الثَّلجِ عَلى القلبِ
وَحُزْنٌ مِثْلَ أسواقِ العِراقِ»

• مُظفّرُ النّوّابِ، «ثلاثُ أمنياتٍ على بوّابَةِ السَّنَةَِ الجَديدَة»
  أذْكُرُ ذلكَ اليومَ جيِّدًا. الجامِعَةُ «الأميركيَّةُ في بيروت»، مَكْتَبَةُ "نعمة يافث"، الطّابِقُ الثّالثُ، الواجِهَةُ الجَنوبيَّة.
  أَنْظُرُ أمامي: قِسْمُ كُتُبِ الهندسَةِ المِعْماريَّة. عَليَّ اخْتيارُ مَبْنًى وَوَصْفُهُ بِمِئَةِ كلمَةٍ قبْلَ مُنْتَصَفِ اللَّيل. حينَها، كانَ عَلَيَّ كَطالِبَةِ عِمارَةٍ في السَّنَةِ الثّانيَةِ اخْتيارُ عَمَلٍ لمادَّةِ العِمارَةِ المُعاصِرَة. صَعْبٌ جِدًّا أَنْ تَصِفَ مَبْنًى بِمِئَةِ كَلِمَةٍ مِنْ دونِ القِراءَةِ عنْهُ.
  في السَّنَةِ الثّانيَة، وَأمامَ كُتُبٍ كَثيرَة، لَمْ أعْرِفْ مُهَنْدِسي المُفَضَّل. لَطالَما فَضَّلْتُ العِمارَةَ التَّبْسيطيَّة. لَطالَما فَضَّلْتُ بَساطَةَ الأَشْياءِ وَالأَشْكال. رُحْتُ أُفَتِّشُ وَأَنْظُرُ عَشْوائيًّا، أفتَحُ كتابًا تِلْوَ الآخَر. ثُمَّ ظَهَرَتْ كَجِنيَّة، "زها حديد". كالجَميع، سَمِعْتُ عَنْها الكَثيرَ وَلَمْ أَعْرِفْ عَنْها الكَثير... إلى أنْ وقعَ هذا الكتابُ في يدي ووقَعْتُ أنا في عِشْقِ مَشاريعِها: مَحَطَّةُ إطفاءِ الحريقِ في ألمانيا، قاعَةُ "باخ" للموسيقى، وُصولًا إلى مَرْكَزِ "روزنثال" للفنِّ المُعاصِرِ، في مدينَةِ "سينسيناتي" في أميركا، الَّذي أُنْشِئَ عامَ أَلْفٍ وَتِسْعِمِئَةٍ وَتِسْعَةٍ وَثَلاثين. نسيتُ كلَّ ما عرفْتُهُ عنْ هذهِ المهندِسَةِ عنْدَ رؤيةِ هذا المَشْروع. نَسيتُ كُلَّ ما أعْرِفُهُ عنْ هذهِ الرّائِدَةِ التَّفكيكيَّة، أوِ التَّجْريدِ الدّيناميكيِّ أوْ حَتّى عِمارَةِ ما بَعْدَ الحَداثَة. «هَذِهِ السَّيِّدَةُ تَبْني المستحيل»، قُلْتُ لِنَفْسي.
  عِنْدَما رأيْتُ هذا المَشروع، بَدَأَ التَّصْنيفُ يزْعِجُني، ولَمْ أَعُدْ أَرى المشاريعَ كَما هي. في كلِّ صفحَةٍ مِنْ هذا الكِتابِ قِصَّةٌ. أخذْتُ أنظُرُ إلى مَرْكَزِ "روزنثال"، أجْسامٌ باطونيَّةٌ سوداءُ ورماديَّةٌ تطيرُ فوقَ حائِطٍ منْ زُجاج. سألْتُ نَفْسي: "لمَ كُنّا نَرْمي الحِجارَةَ على زُجاجِ الأبنيَة؟" ابْتَسَمْتُ وَتَخَيَّلْتُ "زها" وهيَ طفْلَة، تَرْكُضُ في الشَّوارِعِ وَتَرْمي الزُّجاجَ على حيطانِ الأَبْنيَة، لا العكس. أَنْ تَرى باطونًا مُسلَّحًا يَطيرُ فوقَ زجاجٍ لا يُمْكِنُكَ إِدْراجُهُ تَحْتَ المدرسَةِ التَّفكيكيَّة، إنّما تحْتَ مَدْرَسَةِ المُسْتَحيل. أبنيَةُ "زها حديد" تَصْدِمُكَ لأنَّها لا تُريكَ ماضيَها، وَلا كَيْفَ تَطَوَّرَتْ هذِهِ الأفكارُ حَتّى وَصَلَتْ إِلى شَكْلِها اليَوْم. "زها حديد" تعرِفُ كيفَ تَلْعَبُ عَلى أفكارِكَ كيْ تتخيَّلَ مراحلَ مشاريعِها. أجْسامُ المَبْنى هُنا موجودةٌ أمامَكَ وعليْكَ تقبُّلُ الأمْر. تَلْعَبُ عَلى منطقِ الأشياءِ وخُطوطِ التَّفْكيرِ والتَّنْفيذ. لا يُمْكِنُ تَحْديدُ البِدايَةِ والنِّهايَةِ في مِثْلِ هذِهِ المَشاريع، وَلا مِنْ أيْنَ بدأَتِ المهندِسَةُ التَّفكيرَ، كُلُّ مَبْنًى هوَ عمليَّةُ تفكيكِ شيفرَةٍ لرأْسِ جنّيَّةٍ وراءَ هذِهِ الأَعْمال. يَبْدو الفَضاءُ الدّاخليُّ للمَبْنى مَسْبحًا هوائيًّا، تَطيرُ فيهِ الوَحَداتُ، لا شيءَ ثابتٌ هُنا. تُعَلِّمُكَ "زها حديد" أنَّهُ لا طريقَةَ واحِدَةٌ للوُصولِ إلى الهدفِ وأنَّ لا شيءَ ثابِتٌ في العِمارَة، وأنَّ هذا المَجالَ هوَ مجالُ الصَّدَمات. تَفْتَحُ نافِذَةَ أَمَلٍ لكُلِّ طالِبِ عِمارَةٍ عَلَّموهُ أنَّ هَذا المَجالَ يَحُدُّهُ الخَطَأُ والصَّواب... تُخْبِرُكَ بإصْرارٍ إِنَّ الأَفْكارَ المُبْدِعَةَ لا تَحْتَمِلُ الخَطَأَ والصَّواب، تُعْطيكَ أمَلًا لتَتَحَدّى نَفْسَكَ وَتُنْجِزَ ما تُريدُه، وَتؤكِّدُ لكَ أنَّ الغريبَ متاحٌ، وَأنَّ مَقولَةَ "بيكاسو" المَشْهورَةَ «كلُّ ما يمْكِنُ تخيُّلُهُ، حقيقيٌّ» أَكيدَة.
  أَغْلَقْتُ الكِتابَ، كَتَبْتُ مئَةَ كَلِمَةٍ أَصِفُ فيها المَبْنى، وَخَتَمْتُ ما كَتَبْتُهُ بالقوْلِ إنَّ "زها" علَّمَتْني المُسْتَحيل.